الأربعاء، 24 يوليو 2013

رسالة القرآن في وعيها التاريخي








إن تغييب التاريخ الحقيقي لأي حركة، هو حكم عليها بالتيه والضياع، ومتى ما ارتبط أي حراك في مساره التاريخي الواعي أمن من الانغلاق والاضمحلال والتلاشي. إن دين الإسلام رسالة إلهية خالدة، ولكن بقاءها فاعلة مرهون بوعي حامليها، فكثيراً ما سقطت الدعوات والرسالات الإلهية من قبلها في غياهب بئر الجاهلية حين استُخدمت كأداة للتسلط والتعالي بدلاً من أن تكون كما أريد لها شعاراً للمحبة والسلام.
لايمكن لدعوة ممتدة عبر الزمان أن تقف في نقطة الحاضر متناسية الماضي أو أن تتغافل عن المستقبل. إذا كان للدين أن يتحرك في نفوس أتباعه بيقظة وعقلانية فلابد وأن يتحرك بموازاة وعي الزمان وحركة التاريخ. تعاليم رسالة الإسلام ليست مجردة، إنها مشبعة بطعم الزمان وعبق المكان، ولا يلبث قارئ القرآن في تلاوته حتى تنقله سورة البقرة إلى سلسلة من الأحداث والمواقف في زمان ما قبل الرسالة، كيما يأخذ القارئ تعاليمه بوعي تام ويرتبط بتاريخ الرسالة الممتد عبر العصور.
للدعوة الإلهية تاريخ، والقرآن الكريم يعمل على حفظه وتوثيقه، وآياته الكريمة تعظ المؤمن بالنص المباشر تارة، وبما وراء النص من خلال شواهد تاريخية تارات أخرى. وسورة البقرة المباركة وفي بداياتها تقول للمسلمين: أنتم تقفون هنا حيث انتهى الآخرون، في نهاية هذا الامتداد الزماني لهذه الرسالة السماوية، إنها تخاطب العرب «ضمناً»: «يابني اسماعيل»، بموازاة صريح الآية وهي تخاطب اليهود بـ «يابني اسرائيل»، وتحمّلهم بذلك أمانة رسالة المبادئ والأخلاق للعالم كله، كبديل عن أمة لم تحمل تلك الأمانة من قبل، ولم تحفظ عهدها مع الرسل فغيبت التوراة واستكبرت على القرآن وأهله.
وعي التاريخ هو مسار تتحرك فيه كل المشاريع الهادفة، وانفصال أي أمة عن تاريخها وغيابها عنه بسبب وقوعها في هيمنة قضايا تاريخية أخرى من شأنه أن يحرف الدعوة عن هدفها الأساس، فتتحرك ولكن ليس في المسار الصحيح. وسورة البقرة بهذا المنطلق تصف الدواء الناجع لأتباع الدعوة الإلهية في الحاضر، بأن يرفعوا رؤوسهم عن بئر الصراع الضيق، وأن يعيدوا ارتباطهم بتاريخ رسالتهم الحقيقي، بدلاً من ارتباطهم بحُقب اشتد فيها الصراع والخلاف فغابوا عن وعي رسالتهم، وسقطوا صرعى في دوامة أهوائهم تماماً كما حدث للذين من قبلهم.
لكل أمة تاريخ هو مبعث انطلاقها، وآيات الله التي جاءت بأحسن القصص جاءت لتظهر حقائق التاريخ التي من شأنها أن تؤسس لهذه الأمة نقطة الانطلاق، وهو التاريخ الذي يجب أن يَأخذ أولويته في أذهان من نزل الكتاب لهم وبلغتهم. وإن غياب وعي التاريخ وانحسار حس المسؤولية تجاه الرسالة، أوشك أن يدخل حامليها نفس الكهف المظلم الذي دخلته أمة التيه من قبلهم، فانشغالهم بتفاصيل النزاع البيني وارتباطهم بتواريخهم الحزبية أضعف تمسكهم وتنبههم لتاريخ الدعوة الأصيل فانحسرت قوتهم الجاذبة، وأضاعوا المسار الحقيقي لتلك الدعوة، وبدلاً من أن يوجهوا رسالتهم للعالم، توجهوا لمناكفة بعضهم البعض.
إن الرجوع لتاريخ القرآن، والتعلق به لا يعني التنازل عن تاريخ ما سواه، لكنه يعني أن يُعطى هذا التاريخ أولوية وبعداً يطغى على كل الأحداث التي جاءت فيما بعد، فهو أصل المنطلق. وإننا «في الواقع» نشهد حضوراً ضعيفاً وهزيلاً للأحداث التي أولاها الله سبحانه وتعالى أهمية كبرى في كتابه العزيز، فلا نبالغ إن قلنا إن حضورها في الأوساط الدينية والثقافية يأتي في سياق «أساطير الأولين».
لسنا بحاجة اليوم لاستنساخ شخصيات التاريخ وأحداثه إلى واقعنا الحاضر، إننا بحاجة لعقل يعي التاريخ ويأخذ العبر منه بدلاً من أن يجتره اجترارا، ويستيقظ عن غفلته لأهدافه الكبرى، ويتنبه لأصل دعوته ومنطلقها، بدلاً من أن يَضيع «كما ضاع الذين هم من قبله» في صحراء التيه سنين طويلة.
نشر المقال في جهينة الإخبارية   بتاريخ 
نشر المقال في موقع السيد حسين الصدر بتاريخ 25 / 7 / 2013م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق