الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

خاطرة في قصة البقرة

يورد القرآن الكريم في بدايات سورة البقرة مشكلة وقع فيها بنو إسرائيل في تعاملهم مع أوامر الله حين أمرهم نبي الله موسى بذبح بقرة، وحضور هذه الحادثة في بداية الكتاب لها دلالتها وتأثيرها على المؤمن الراغب في فهم آياته وتطبيق أوامره والاستسلام  لها، بحيث ينطلق في الأمر على أنه خير يجب المسارعة فيه، لا على أنه لغز يجب كشف أسراره أو البحث في تفاصيله.

وبغض النظر عن التفاصيل التي تحكيها قصة بقرة بني إسرائيل، إلا أن أحد معانيها يمكن اختزاله في رسم العلاقة العكسية بين سرعة تنفيذ الأمر وبين كثرة الأسئلة الفاحصة للأمر على أنهما على طرفي نقيض، فمن يسارع في التنفيذ يطبق المستوى الأول من الأمر والفهم ولايبحث في طياته عن التفاصيل المنهكة والمعطلة. والعكس صحيح فالبحث عن التفاصيل هو وسيلة هروب عن التنفيذ السريع والمباشر. وقد كان الأمر في قضية بني إسرائيل في بدايته كافياً محققاً للمطلب، ولو نُفذ لكان مقبولاً حتى لو لم تكن البقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، ولكنهم استقبلوا الأمر ببساطته بقولهم " أتتخذنا هزواً" ، وحين تعقد الأمر قالوا " الآن جئت بالحق"، وهكذا فالبساطة لا تعني غير التفاهة بالنسبة لهم أما التعقيد فيعني لهم أنه أمر جاد.
مستقبل الأمر يسارع لأنه عبد يقبل أن يتجاوز الأمر مكانته العقلية، لكن ما يبدو واضحاً في كونها إحدى مشاكل الإنسان هي البحث عن ذاته مع الله، فلا يقبل أن ينفذ حتى يستظهر الأمر بتفاصيل مقنعة تشبع مكانته وتغذي لهفته وراء الأسرار. وما تبينه الآيات أن هذا السعي يقوده إلى التعقيد ويتدرج به من السهولة والسعة إلى العسر والضيق، وينقله من "أي بقرة" إلى بقرة محددة ذات صفات نادرة الوجود يصعب العثور عليها.
وتزداد مشكلة بني إسرائيل وضوحاً حين نرى ردهم "الآن جئت بالحق" فبهذا تتجلى مشكلة الأوامر الربانية الموجهة للإنسان على أساس "هكذا يأمر الله .. وهكذا يريدها الإنسان" فلا يراد للأمر الديني أن يكون عادياً سهلاً ميسراً بسيطاً لأن الدين في نظر الإنسان ملازم للتعقيد وأوامره يجب أن تكون واضحة بكل التفاصيل.
قصة البقرة هذه لا تنفي أن يكون الإنسان واعياً، ولكنها تنفي أن يكون السبيل لذلك الوعي هو كثرة السؤال وتقوده إلى الوسيلة الأمثل لإدراك حقيقة أوامر الله بسرعة التنفيذ لا بكثرة السؤال، بتمثل العبودية التامة لله لا بمساءلة الله جل في علاه والتباطؤ عن التنفيذ "فذبحوها وما كادوا يفعلون".
أخذت سورة البقرة والتي هي أكبر سورة في القرآن الكريم اسمها من هذه الحادثة، والحادثة ليست مجرد قصة إنها منهاج تفكير وسلوك نابع من سوء تقدير الإنسان لنفسه وبالتالي لربه. فهل لهذه الحادثة حضورها عند أهل القرآن الكريم؟ وخصوصاً أن مضامين السورة تخاطب بني إسماعيل ضمناً بعد أن أشارت ووجهت الخطاب مباشرة إلى أحد فرعي الملة من أبناء إبراهيم وأبناء إسحاق ويعقوب حين قالت : " يابني إسرائيل"، فحين يخطئ ذاك الفرع في تعامله مع أوامر الله المباشرة في حادثة البقرة ثم يقسو قلبه يخطيء في تعامله مع الكتاب السماوي بالمثل، وحين يخطئ الأولون فعلى التالين الذين يستلمون الكتاب من بعد ما ضيعه السابقون أن يحذروا من مطبات النفس التي لا عاصم لأحد منها إلا بالتقوى وتمام العبودية لله.
ــــــــــــــــــــــ
صحيفة الوطن العمانية - ص 21
جهينة الإخبارية

مواضيع ذات صلة 
سورة البقرة من آية 67 إلى آية 74

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق