الثلاثاء، 13 ديسمبر 2016

هل عندكم سلطان بهذا؟

كتاب الله رسالة سماوية نقية من شوائب الإنسان وتدخلاته وبه سنحاسب يوم القيامة، ولا ينبغي للمؤمن أن تنحرف بوصلته عن هذا الثقل الأكبر ، هكذا تشير كثير من الآيات الشريفة وهذا هو المنطق البسيط الذي يفهمه العقل المتحرر. وقد تناول القرآن في غير مرة ضرورة تحصين  الفرد والمجتمع بالفكر الممانع لكل دخيل على الأصل بالسؤال تارة والتمحيص تارات أخرى، ويضرب لذلك الأمثال في سور شتى وقصص مختلفة، منها ما ورد في سورة الصافات حين عالجت الآيات ما آل إليه الوضع الديني في قريش من عبادة الملائكة وتسميتهم بأسماء الأنثى. فقد استنكرت الآيات ذلك المعتقد وعالجته بنقاش هادئ بالارتكاز على ركيزتين: هما السؤال العقلي المنطقي المثير الممحص والفاحص أولاً، والسؤال عن مصدر العقيدة ثانياً.
في الجانب العقلي تأمر سورة الصافات في آية (149) المصطفى (ص) أن يرفع الفتوى إلى أصحاب الاختصاص المدعين لهذه العقيدة ليتأملها أولو الألباب (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ (*) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ (*) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (*) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (*) أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (*) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(1) ؟ لأن هذه التسؤالات تعيد للإنسان توازنه بعد أن أفقده إياه التيار الجارف، ويعصف بالتراب الذي غطى العقل بطبقات من المقولات الزائفة، فهم بهذه الأحكام قد أنزلوا قدر الله سبحانه ونسبوا إليه ما لا يليق من التمييز بين الجنسين الذكر والأنثى وكلاهما مخلوق، ونسبوا إليه ما يكرهون وهو الأنثى "فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون"؟ وهذه التساؤلات تحفز العقل بعد أن أصيب بالكسل أو العطب الكامل تأثراً بالهوى والموروث ومقولات أصحاب الأسماء العالية في المجتمع القرشي آنذاك، والأحكام الباطلة تعمل على تغيير الموازين وتعبث في المقادير، ومن شأن الأسئلة المنطقية العاصفة للعاطفة أن تعيد الإنسان لرشده وإلى جادة الصواب، والعقل يمكنه استشعار الخلل إن أطلقت النفس حريته وحفزه القلب السليم للعمل بموضوعية.
أما الركيزة الثانية والمهمة فهو السؤال عن مصدر الحكم؟ حيث تقول الآية ( أَفَلا تَذَكَّرُونَ (*) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (*) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (157))(2) التذكر في الدين هو الرجوع للذكر وهو الكتاب السماوي بإلإمتثال لأوامره الواردة فيه، وكتاب الله العزيز مصحح للانحراف ومانع للانجراف عن جادة القيم الأساسية التي أنزلها الله سبحانه وتعالى. الآية الشريفة تعبّر عن أحكام الكتاب السماوي بالسلطان المبين، والسلطان هو الذي يملك السلطة على الآخرين فلا يملكون الرد أو المخالفة، والقرآن يفرض هذه النظرة لكلام الله،  أي أن كلام الله يجب أن يكون سلطاناً على من يسمعه ومن يصل إليه ، وما عدا ذلك فلا يملك السلطة. و القول يأخذ مكانته وسلطته من مكانة وسلطة قائله، والله عز وجل هو الخالق المالك ويحكم في الدين على مخلوقاته، وإذا حكم فلا مبدّل ولا معقب لحكمه. من هنا فإن الآية تتساءل عن الوثيقة الرسمية التي اُعتمدت في أخذ هذه العقيدة وهذا الحكم، وتكمل تساؤلها بالقول فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين لتعطي إجابة دقيقة داخل التساؤل نفسه، وهو أن الحكم إنما يؤخذ من الكتاب السماوي وليس من التيارات الجارفة ولا الموروثات المتعصبة والمضيعة للمقادير والمُخسرة للموازين والمجمدة للعقل الذي وهب للإنسان من أجل الحرية والتفكير.
إذاً فالآية تعطي فكراً ممانعاً يقارع الباطل في كل زمان، ويصحح المسار في كل مكان، وحين نزل القرآن على قريش وأهل الكتاب إنما قرع الأجراس لإنعاش القلب وإعادة العقل المخطوف لصاحبه ليأخذ قراره بنفسه. وليعيد لكلام الله مكانته وسلطانه المنزوع منه، فمتى ما عاد العقل لصاحبه، وأعيدت مكانة الكتاب السماوي إلى مكانته الحقيقية،  اكتملت عناصر الحصانة وبني الجدار الممانع الذي يقارع كل دخيل ، ِويسقط بنيان الضلال من القواعد بسؤال واحد .. مجرد سؤال .. (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(3)؟!
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الصافات  (149)-(154)
(2) الصافات (155)-(157)
      (3) يونس (68)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق