الجمعة، 21 سبتمبر 2018

نحن والقرآن - 10 حلقات

نحن والقرآن 
هي حلقات في سبيل إلفات النظر كتاب الله بوجوب قراءته والتأمل في آياته من خلال عشر حلقات بعشر عناوين.


الحلقة الأولى : وجوب قراءة القرآن
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة المزمل آية (20)
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ سورة المزمل (20).
في آية (20) من سورة المزمل " فاقرأوا ما تيسر من القرآن"،  "فاقرأوا" ليس من باب الاستحباب ولكن هو من باب الوجوب، ولقد جاء التيسير بسبب وجود العذر وهو المرض والضرب في الأرض من أجل الرزق أو القتال في سبيل الله
"عَلمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْه".
هو تيسير في حال تعذر على المؤمن أن يقرأ الكثير وإلا فإن الأصل هو قراءة الكثير من القرآن، وهذه القراءة هي ما تجعل المؤمن ملتصقاً بكلمات الله ذاكراً لأوامره ونواهيه، متدبراً عاملاً بالآيات مجسداً لها مطبقاً لمعانيها.
والآية الشريفة لا تعني القراءة السطحية وإنما القراءة الواعية المتدبرة التي تستهدف التذكير الدائم بكلمات الله وإحياء القلب وإنعاشه بها، إذ أنه لا خير في قراءة لا تدبر ولا تفكر فيها، لا يمكن أن نقول عن القرآن أنه كريم لوجوده على الأرفف فقط، فإن كنا نؤمن بكرم القرآن، علينا أن نكثر من قراءته وتأمله وتدبر آياته حتى نحظى بذلك الكرم، وكما تبيّن هذه الآية فإنها تعطي الحد الأدنى للقراءة وهو المتيسر، ولكنها لا تعطي حداً أعلى، إذ لا سقف ولا حد أعلى لذكر الله، فمهما قرأنا من هذا القرآن في اليوم الواحد، فسنظل في خانة المقصر كما تقول الآية " علم أن لن تحصوه " فلن يستطيع أحد أن يوفي قدر الله سبحانه وتعالى من صلاة وتسبيح وقراءة للقرآن.
وأمة النبي محمد (ص) ليست استثناء من هذا والدليل ما جاءت به سورة الفرقان:
(وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30))

هذه شكوى الرسول محمد (ص) على قومه يوم القيامة، فهل يحب أحدنا أن يشير إليه رسول الله بهذه التهمة في ذلك اليوم، يالها من شكوى!؟ كيف يشكو الرسول إلى الله في ذلك اليوم العصيب؟! هو يشكوا ربه من أن الرسالة التي جاهد في توصيلها لهم خلال سنين من الجهاد ضاعت بين أيديهم، واتخذوا هذا " القرآن " الذي اشتق اسمه من كثرة القراءة، اتخذوه مهجوراً. وقوله تعالى "اتخذوه مهجوراً" أعظم من الهجران نفسه، فهم لم يهجروه وإنما اتخذوه مهجورا، فتأمل في هذا، تقول عن مبنى قديم أنه مهجور حين لا يسكنه أحد ولا يرتاده أحد، ولكن تقول عن مبنى قديم أنه اتخذ مهجوراً كما نقول مثلاً اتخذنا المبنى الفلاني متحفاً ، أو اتخذ موقعاً أثرياً أو أتخذ مكاناً سياحياً، وهذا يعني أنه هجر وبعد أن هجر سيّج بسياج وشبّك بشبك حتى لا يقترب من هذا المكان الأثري أحد. وعندما نقول أن القرآن اتخذ مهجوراً فهذا يعني أنه تعدى الهجر إلى مرحلة متقدمة وهي ما مقتضاها محاصرته وتخصيصه لأوقات قليلة تماماً كالأماكن الأثرية التي يخصص لها أوقات محددة للزيارة أو قد تسيج بسياج وتغلق عن العوام، ويكتب عليها لوحة بما معناه " يمنع الاقتراب"، هل هذا واقع؟ هل هذا  والآن اعرض هذه الكلمة على واقعك أخي المؤمن، كيف تجد نفسك مع القرآن؟
لقد وصل إحساسنا تجاه القرآن الكريم إلى مرحلة خطرة جداً، فبدلاً أن نستشعر الخوف والقلق من الابتعاد عنه، فقد أصبحنا نشعر بالخوف والقلق من الاقتراب منه وتدبره والتفكر في آياته، أصبحنا نشعر بالخوف من التفكير في القرآن الذي يحث المؤمنين على التفكر ، أصبحنا نخشى منه، لذا أصبح غريباً مهجوراً يتلى ولكن لا تتجاوز آياته الحناجر. فأي مصيبة هذه؟!


الحلقة الثانية : عدم الإعراض عن كتاب الله
القرآن مشروع نجاة
القرآن الكريم إما واقف أو متحرك، ونحن من يقرر حركته أو وقوفه، هو واقف حين نتخذه أساطير الأولين، ومتحرك حين نجعل منه محطة للتغير، هو يتحرك بنا يغيرنا وينتقل بنا من نقطة إلى أخرى، من الظلمات إلى النور، من النفس الأمارة إلى النفس المطمئنة، ينقلنا من القلب المريض إلى القلب السليم، هذا هو حراك القرآن الكريم، وهذا هو كرم القرآن الذي ننعته به، هو كريم على هذه الأنفس المتعبة المشتتة، القرآن متحرك حين ننطلق به إلى الله من خلال اتهام أنفسنا، ويقف عن فاعليته وعن نقلنا إلى الهدف حين نزكي أنفسنا.
القرآن الكريم مشروع نجاة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، إنه العلم المنجي. وعلينا أن نأخذ من القرآن المعايير التي نقيس عليها أنفسنا، فإن وجدنا أنفسنا مطبقين ومتطابقين مع هذا المعيار نحمد الله ونستمر ، وإن كان الأمر خلاف ذلك وجب التغيير.
نطرح اليوم أحد تلك المعايير التي ستعرضها القرآن الكريم في بداية سورة فصلت وهي الإعراض عن الآيات، لنقف نهاية هذه الحلقة متسائلين : هل نحن مقبلين أو معرضين عن آيات الله؟

الإعراض عن آيات الله
يقول الله سبحانه وتعالى في بداية سورة فصلت :
(حم (1) تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5))
القرآن الكريم بشير فهل انتهت بشارته بعد أن رحل الرسول (ص) من هذه الدنيا، وهو نذير فهل انتهي إنذاره لأننا مسلمون بالجغرافيا والتاريخ والوراثة؟ من أسماء القرآن الكريم البشير، ومن أسمائه النذير لأنها أفعاله، يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات طبقاً لما أنزل في الكتاب أن لهم أجراً حسنا، وينذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير، ينذر بيوم القيامة التي يجب أن تكون حاضرة في قلب المؤمن مادام حياً ولاينس ذلك اليوم، فهل نرى أفعاله؟ أو هل تتفعال أنفسنا وتخشع قلوبنا لهذا التبشير وهذا الإنذار؟
هذا البشير النذير لازال ينذرنا بلغتنا العربية، ونحن أمام هذا الإنذار إما أن نقبل عليه أو نعرض عنه، ولكن الاية تصف استقبال الكثير من الناس لهذه البشارة وهذا الإنذار بالإعراض، ونتيجة لهذا الإعراض أُصيبوا بالصمم الغيبي فما عاد أحد يسمعه ولا يعيه، لأن السمع يكون لمن يقبل على القول، ومن يرغب في سماعه، أما الذي يعرض عنه فلن يسمع.
هذه الآيات تعطي أحد المقاييس المهمة التي تكشف علاقتنا بهذا الكتاب العزيز، وهنا محطة يجب أن نتوقف عندها فلا نمر عليها مرار المتغافل، هل نحن مقبلون على هذا الكتاب أم معرضين عنه؟ القرآن الكريم يحفظ لنا دعوة النبي محمد (ص) بعد ألف وأربعماءة عام غضة طرية، هي ذاتها الكلمات التي أنذر بها النبي قومه، هي ذاتها الكلمات التي بشّر بها المؤمنين، هو ذاته الكتاب الذي بلّغه لقومه وللعالمين، فماذا عنا نحن؟ نحن اليوم وبعد هذه القرون هل نرد كما ردت تلك الأقوام السابقة أن قلوبنا في أكنة عنه؟
دعوة النبي محمد قائمة لم تمت لأن الكلمات لازالت بين أيدينا، والله سبحانه وتعالى يحاسبنا على هذه الكلمات كما حاسب تلك الأقوام، فكيف نستقبلها ؟ وكيف هي ردة فعل قلوبنا تجاهها؟ (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ )سورة البقرة 118 ، وهنا تكمن المشكلة في تشابه ردود الأفعال وتشابه القلوب، فهل وعينا هذا الكتاب العربي الذي فصلت آياته؟ هل أحدث فينا تفاعلاً تجاه بشارته؟ أو هل خشينا من إنذاره؟ هل أقبلنا عليه إقبال المستبشر؟ أو أتيناه إتيان الخائف الذي يريد أن يبحث له عن سبيل للنجاه؟ (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) الفرقان (57) . إذاً ردود أفعالنا وما تحلمه قلوبنا تجاه هذا القرآن هو الحكم ؟

الوقر والحجب
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5))
وتظهر مشكلة القلب مرة أخرى، هذا القلب الذي لا يمكنه أن يستقبل كلام الله، لا يعيه ولا يستسيغه، القلوب في أكنة معزولة عن استقبال كلام الله، وفي الآذان ما يمنعها من السماع، أولئك الأقوام يصرّحون بأن قلوبهم في أكنة، لا تستطيع استيعاب قول الرسول، لا يمس قلوبها، بل إن قلوبها مغلفة بكنانة لا يصل إليها الحديث، هذا اعتراف، وهذا الاعتراف على نحو الرغبة في مواصلة المسير بهذا القلب القاسي الأصم، ويتواصل الاعتراف بأن الآذان موقورة فلا يصلها القول، وبأنهم في واد والرسول في واد آخر، وأن الحجب تمنعهم من الاستجابة لهذا القول أو تطبيق أوامره لذا يقولون للنبي : "فاعمل إننا عاملون" اعمل بما تؤمن، اعمل على أساس ما تأمر به من هذا الكتاب، إننا عاملون على أساس ما اتخذناه كعروة وثقى وكوسيلة للنجاة يوم القيامة. هم لهم أعمالهم، ولا يريدون أن يلتزموا بالأعمال التي جاء بها النبي، ولكن من أين أتى النبي بهذه الأعمال؟ الآيات تجيب: " كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً "

دعوة الرسول
ماذا كان رد النبي محمد (ص) عليهم؟ هذا هو قوله ورده  الذي واجه به المعرضون عن كتاب الله، لا زال حياً، ولك أن تتخيل أن هذه الآية قد خرجت من النبي محمد (ص) الآن، فإذا قال له الله سبحانه وتعالى " قل " فهذا يعني أن النبي قد بلغ هذه الآية لقومه المعرضين، إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي، دعوة النبي لقومه هي أن يستقيموا إلى الله بهذه الآيات، أن يستقيموا لله في أوامره الصادرة من كتابه العزيز، ويستغفروه عن الانحراف  عما أنزل الله لأن الويل كل الويل للمشركين.
 ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) ﴾  سورة فصلت
هذه الدعوة هي نصاً دعوةا الرسول الأكرم بدون أن يتغير منها حرف واحد، هي دعوة الرسول طبق الأصل يحفظها القرآن الكريم حتى نسمعها بعد 14 قرناً، هذه دعوة النبي الأكرم الذي ننتمي لأمته ونحبه ونجله فكيف تكون ردة فعلنا تجاه دعوته؟ هل سنقول له قلوبنا لا تقبل على القرآن يارسول الله؟ أو أن آذاننا لا تنجذب لسماع آياته؟ أو أننا في شغل عنه بأشياء أخرى هي أهم بالنسبة لنا؟ فبيننا وبين  الرسول حجاب إذاً! فماذا سيرد الرسول؟ الآية واضحة: إن كنتم توحدون الله وتقدرونه  حق قدره فقدروا كلماته وآياته، إيمانكم وتوحيدكم لله يتجسد في استقامتكم على أوامره والتزامكم بكتابه، فتوبوا إليه واستغفروه وويل للمشركين؟
خاتمة
حتى نتحرك بهذا القرآن ونصل به إلى المراتب التي يريدها الله للمؤمنين، علينا أن لا نقف عند المعرفة، بل نتحرك به للتغيير، وهذه الاتهامات التي نوجهها لأنفسنا هي من أجل أن نتحرك، ومادامت الفرصة أمامنا ونحن على قيد الحياة فإنه يمكننا أن لا نكون معرضين عن آيات الله، وأن نقبل على هذا الكتاب بقلوبنا محبة للكتاب، وأن نستبشر إذا بشرنا القرآن، وأن نحذر ونخاف إذا أنذرنا، وأن نطبق تعاليمه التي أنزلها الله للناس كافة والحمد لله رب العالمين.


الحلقة الثالثة : الامتناع عن السمع
القرآن الكريم هو أحد أهم مسؤوليات المؤمن، المؤمن أي مؤمن بغض النظر عن علمه ومستواه العلمي لأنه كلام الله، ولأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بقراءة القرآن، والتأمل فيه والتدبر في آياته، وهو سبحانه أعلم ما لهذه الكلمات من تأثير على نفسه وقلبه، وكيف يمكن لهذه الكلمات أن تحيي قلبه وأن تنقله من  الظلمات إلى النور، وما على المؤمن سوى أن يتنجز أمر الله آملاً وعده.
قد نكون قد علمنا عن السماع المحرم، وهو أن نستمع لما حرم الله سماعه، لكننا اليوم نتحدث عن حرمة عدم السماع؟ قبل ذاك تعالوا نتعرف على أهم نعم أنعم الله بها على الإنسان ولها علاقة وطيدة بالذكر وكلام الله.

نعمة السمع والأبصار والأفئدة
القلب هو وعاء الحقيقة،  وفوهة هذا القلب هو السمع الواعي ، والبصر المدرك للحقائق والمتأمل فيها، هما أهم حاستين منّ الله بهما على الإنسان : السمع والبصر، لذا تراه في  آيات كثيرة يقول: أفلا تسمعون أفلا تبصرون، وما لم تقوده هذه الحواس لإدراك حقائق القرآن الكريم فلا نفع ولا فائدة منهما ترتجى غير الاستمتاع بالحياة الدنيا، عندما يقول الله سبحانه وتعالى أنك مسؤول عن سمعك وبصرك وقلبك، فلأن كل واحد منا سيسأل عن هذه الجوارح فيم أنفق قوتها؟ هل تأمل بها بما يزيده استبصاراً أم أنه اعتقد أن الحياة خلقت من أجل اللعب والاستمتاع بهذه الإمكانيات وحسب؟
﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (23) سورة الملك

شكر النعم
شكر النعمة بالعمل ( اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور)، فما هو العمل الذي يمكننا من شكر نعمة السمع والبصر الفؤاد ؟ هو السمع الواعي والبصر المدرك، وعلينا أن نعي مانسمع من كتاب الله، وأن نتحقق بأنفسنا من الحقائق الربانية من خلال تحملنا للمسؤولية، لأننا سنساءل عن هذه النعمة فيما أفنيناها، السمع من أهم الجوارح التي تغير حياة الإنسان إن هو فعّلها واستخدمها بشكل صحيح، البصر كذلك. وعلينا أن نحمد الله سبحانه وتعالى أننا قادرون على سماع القرآن الكريم، وأن نحمده أننا نستطيع أن نقرأ هذه الكلمات النورانية التي تحيي القلوب، وأن كتاب الله بين أيدينا نأخذه وقتما شئنا لنقرأ فيه، هذه هي أهم أعمال شكر نعمة السمع والأبصار ، وحق السمع الاستجابة للحق، وحق البصر الخشوع والتعلق بكلام الله، هكذا نشكر الله على هذه النعم، بالعمل وليس بالقول فقط.

حرمة الامتناع عن السمع
والآن نتحدث عن ذلك الذنب الذي يلحق بصاحبه لأنه امتنع عن السمع، إنه أذنب لأنه امتنع عن سماع كلام الله، هو الذنب الذي شكى منه الأنبياء والرسل أثناء تبليغهم لرسالات الله، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة نوح عن شكوى نوح في صد قومه عن سماع الحق :
(وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً (7))
هنا يكون إغلاق الآذان ذنب لأنه عن كلام الله، وهو فعل يعاقب صاحبه، لأنه لا يريد أن يسمع ما أرسله الله لهذه البشرية، لماذا؟ لأنه لايريد أن يتحمل مسؤولية نفسه، يريد أن يتهرب من مواجهة الحقائق، يكره التغيير، يحب الإستقرار على ماهو عليه حتى وإن كان سيؤدي به إلى الهلاك يوم القيامة. وهنا يكون الامتناع عن السماع محرم مرفوض، وهناك ذنب آخر يمكننا أن نسميه ذنب التهرب من آيات القرآن الكريم. 

حرمة التولي من القرآن
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة هود :
﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)  سورة هود
تأمل في الآية الخامسة، إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه، يستخفون من ماذا؟إنهم يستخفون من القرآن، وماذلك إلا لأنهم لا يريدون مواجهته، ولايريدون أن يكونوا طيعين تحت أمره؟ يريدون أن ينفلتوا بعيداً عن كلام الله. ولنا أن نفهم قوله تعالى "أن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه" في العودة للكتاب المفصل وعدم الحياد عنه، وعدم التهرب عنه، إذاً هذا التهرب الذي تذكره الآيات الشريفة هو هروب من الكتاب المنزل، وإذا تأملنا هذه الآيات وغيرها الكثير فإننا لاشك سنصل إلى قناعة خلاف ما يمكن أن نتصوره، هو أننا لسنا محاسبين ولا مطالبين بالإستماع الواعي والنظر المدرك لآيات هذا الكتاب الكريم، وهذا مفهوم خاطئ علينا أن نصححه من خلال الالتزام بقواعد القرآن الكريم.


الحلقة الرابعة : المسؤولية
صناعة الرشد
كل ما يدعونا للإبتعاد عن كتاب الله مصدره الشيطان وإن تزين بالزخرف، وكل ما يدعونا للاقتراب منه مصدره الرحمن وإن بدا عادياً بسيطاً. أحد مساعي الشيطان الرجيم هو تحجيم دور القرآن، فيبث أفكاره التي تقلل من أهمية قراءته والاقتراب منه ، ويوحي بأن دوره مقتصر على التشريع وحسب، ولأن المؤمن غير المتخصص ليس على دراية كافية بأدوات استخراج ذلك التشريع فلا داعي لقراءة القرآن. والحقيقة أن دور القرآن الكريم أكبر من ذلك، فله مشاريع كثيرة ودوره ليس مقتصراً على ذلك، وأهم تلك المشاريع هو إخراج المؤمن من الظلمات إلى النور، وصناعة الإنسان الواعي المبصر المدرك للحقائق، وهذا المشروع يؤديه القرآن مع كل فرد منا بصورة فردية، كل حسب عزيمته واقترابه من هذا الكتاب، لذا لا يمكن ضمان بلوغ غاية هذا المشروع فقط بالانتماء للجماعة.
إذا آمنا أن القرآن يخاطبنا اليوم، فعلينا أن نلحظ أنه يتحدث إلى مؤمن مسؤول عن نفسه، مسؤول عن قراراته، واختياراته، ومسؤول عن حواسه وخصوصاً السمع والبصر، لأنهما فوهة القلب الذي هو مهبط كلمات الله. إنه يخاطب أولئك الذين يدركون مسؤولية السمع، تلك المسؤولية وذلك الإحساس هو ما يقود إلى الرشد الذي يريد أن يصنعه القرآن في الإنسان بدلاً من السفه والاتباع الأعمى.
يحاول الشيطان أن يخلى الإنسان من مسؤوليته، ويبث روح التخاذل والتخلي عن السمع الواعي والتبصر المدرك للحقائق، وإقناعه بأنه ليس مسؤول عن قراراته، كل ذلك من أجل أن يعزله عن نور القرآن، أما القرآن فهو يخاطبنا على أننا لسنا بمنأى عن مسؤولية ما نسمع أو نقرأ من كتاب الله. بالبصر نقرأ هذه الكلمات، بالسمع نستمع آياته، ولدينا أفئدة تعي وتعقل وعلى ذلك سنحاسب، يحدثنا القرآن الكريم عن مسؤولية السمع والأبصار والأفئدة، وأننا مسؤولون عن هذه النعم  الهامة فيم أفنيناها. كل واحد منا سيسأل عن  هذه النعم فيم أنفقها؟ هل تأمل بها بما يزيده استبصاراً أم أنه اعتقد أن الحياة خلقت من أجل اللعب والاستمتاع بهذه الإمكانيات وحسب؟
وهنا نقف عند مسؤولية هذه الحواس من القرآن الكريم.

مسؤولية السمع والبصر
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم آياته
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) سورة الإسراء.
بهذه الحكمة وهذه الكلمات النورانية يوقظ القرآن ضمير الإنسان من أجل أن يستعيد له وعيه، ويطلق سراحه نحو الحرية حتى يختار بنفسه لأنه سيحاسب فرداً يوم القيامة. الآية تقول أنك آيها المؤمن مسؤول عن هذه الأجهزة التي وهبك الله إياها، فهي التي تقودك لاتخاذ قراراتك المصيرية، " كل أولئك كان عنه مسؤولاً " أنت مسؤول، فإذا سمعت وأبصرت ووعيت بقلبك فلا تقف ما ليس لك به علم، لا تسيرن خلف ما لم يصلك علمه لأنك تملك الحواس، ومسؤول عما تعلم من كتاب الله فلا تسيرن خلف مالا تعلم.
هذا هو خطاب القرآن الكريم، إنه يخاطب مؤمنين يحملون مستوىً من الإدراك والوعي، يتحملون مسؤولية هذه الأذن و هذا البصر، فإذا سمعت أو قرأت من كتاب الله ووعيت وعلمت فلا تتصور أنك لست محاسباً على ماسمعته وما أبصرته وما علمته، وأن مسؤوليتنا انتهت فقط بقراءة هذا القرآن، المؤمن بعد السمع ليس هو قبله، لأننا محاسبون على قدر ما سمعنا ووعينا. إنه من الواجب أن نقرأ القرآن، ويجب أن لا نعرض عنه،  وإذا قرأناه من الواجب أن نستجيب وأن نتغير، فعلى المؤمن الذي علم من هذا الكتاب شيئاً أن لا يتولى عنه تولي من لم يسمع.
هكذا يجب أن نقترب من القرآن، ولآيات الله علاقة كبيرة بالسمع، إنه يخاطبنا نحن من أجل توظيف هذه النعم التي أنعم بها علينا في يقودنا إلى الرشد والفلاح. 
تعالوا لنرى علاقة القرآن بالسمع :  

السمع والقرآن
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة لقمان:
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7))
الله سبحانه وتعالى يتوعد أولئك الذين يولون عن الآيات وكأنها لا تعنيهم، يسمع ثم يتولى وكأنه لم يسمع وكأن جهاز السمع معطوب عنده أو أن أذنه مغطاة بوقر يمنعه من السمع، وهذا يعني أن القرآن أبلغ حجته على من سمع، وأن على هذا السمع وهذا الإدراك حساب وعقاب يوم القيامة، وأن التعامل بتهاون مع ما نسمع من القرآن يوقع السامع في موضع المساءلة ويجعله في موقع خطر مع الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.
من مثل هذه الآيات يتضح علاقة السمع بالقرآن، فالآية تحرك فينا الوعي والإدراك، وتطالبنا باليقظة وتحمل المسؤولية. ومن مثل هذه الآيات يتضح أحد أهداف القرآن الكريم، هو أن يكون الإنسان مستقيظاً راشداً مسؤولاً ، في الجهة الأخرى فإن دعوى الشيطان هي أن يعزل النور عن الأبصار، وأن يحول الإنسان إلى سفيه تابع يلقي بمسؤولية نفسه على غيره، لا يعي ما يسمع، يبيت طويلاً في نوم الغفلة والأمنيات فلا يستيقظ يوم القيامة إلا وهو في مساءلة في سمعه وبصره وقلبه فيم أنفقهم، وفي الآيات لماذا لم يسمعها ولم يبصرها.


الحلقة الخامسة: الأمية في الكتاب
الأمية
الأمية هي عدم توافر الحد الأدنى من المعرفة والثقافة التي تمكن الفرد من التعامل بشكل فاعل والارتقاء بنفسه وبالجماعة التي ينتمي إليها، كل مجتمع له حد أدنى من المعرفة بحيث يكون النزول عنها هو بمثابة دخول لعالم الأمية، مفهوم الأمية متحول وقابل لأن  يأخذ أكثر  من اتجاه، فالأمية بهذا التعريف هي أنواع ومستويات، وتعد أمية القراءة والكتابة هي أولى مستويات الأمية بشتى أشكالها وأنواعها، ومع التقدم التكنولوجي تتخذ الأمية أشكالاً مختلفة أخرى كالأمية الإلكترونية مثلاً، فمع تطور العالم أصبحت الأمية ليست أمية القراءة والكتابة وحسب، فمن الممكن أن تضاف أمية التعامل مع الأجهزة الذكية والإلكترونية إلى تلك الأمية بحكم أنها أصبحت مستلزم في شتى صنوف الحياة، إذاً كلمة الأمية هي كلمة نسبية تأخذ معناها من خلال المستوى والموضوع الذي نتحدث فيه، ويحدد المستوى المعرفي على أساس الزمان والظروف والإمكانات بحيث تصنع تلك المعرفة حصانة لذلك المجتمع ضد هجمات الجهل التي تودي به إلى الخسران.
والأمية كمقياس لا تستهدف طبقة محددة دون أخرى في المجتمع وإنما تقيس عموم الناس، فمتى ما انحدر المجتمع عن الحد الأدنى من المعرفة مجال في محدد فقد دخل في الأمية في ذلك المجال، لذا فإن محو الأمية يستهدف الطبقات غير المطلعة وغير المتعلمة بالدرجة الأولى حتى يتم تأهيلها لتواكب بقية المجتمع للمستوى الذي يجب أن لا يقل فيه أحد عنه، وإن قل فقد وقع في عالم الجهل وكان عرضة للاستغلال والتخبط، وبهذا تتفاخر الأمم اليوم بمحوها للأمية ونشرها للوعي في جميع البلدان لأن في ذلك مؤشر على تقدم المجتمع وتحضره.
أمية الكتاب
وردت كلمة الأمية في القرآن، فما الذي يقصده القرآن الكريم بالأمية؟ ما هو الموضوع الذي تتناول فيه الآيات هذه الكلمة؟ وما هي حدود تلك الأمية؟ بالرجوع للموضوع الذي كانت تتحدث فيه الآيات عن الأمية نفهم أن المقصود هو أمية الكتاب، وهو عدم توافر الحد الأدنى المعرفي من عقائد وأحكام وشرائع الكتاب السماوي، ولأن الكلمة مرتبطة بعموم الناس وبتوافر الحد الأدنى من المعرفة للكتاب، فإنها تشير ضمناً إلى وجوب وجود مستوى معرفي يزيد ولا يقل في مواضيع وعقائد الكتب السماوية،  يجب أن تتوافر تلك المعرفة لدى أدنى طبقة في المجتمع المؤمن، وأقل من ذلك المستوى يعد جهلاً بمعارف الكتب السماوية ومواضيعها الأساسية، بحيث أن عدم توافر الحد الأدنى في المعرفة في ذلك المجتمع يجعله متخبطاً ويسير في غير هدىً في شأنه الديني وفي علاقته مع الله. وإذا كانت الأمية أمر معيب بالنسبة لمن يؤمن بالكتب السماوية، فإن العيب مضاعف بالنسبة للأمة التي نزل الكتاب في كنفها وتحدث بلغتها.
إن الأمة التي نزل القرآن الكريم في أحضانها تحمل مسؤولية تعلمه والعمل به وتبليغه لبقية شعوب الأرض الذين لا يعلمون لغته، ومحو الأمية عنهم في مفاهيمه وعقائده، هذا فضلاً عن محوها فيمن نزل فيهم ويتحدثون بلغته . من هنا فإن مسؤولية من يتحدث العربية كلغة أم تتضاعف تجاه القرآن العربي المبين في تعلم هذا الكتاب وتعليمه ونشر مفاهيمه الخالصة، لأن ذلك هو الإصلاح الذي ينشده القرآن من حامليه، وتلك هي المسؤولية الملقاة على عواتقهم والتي إن هم تخلوا عنها كانوا كمن حمّلوا التوارة ثم لم يحملوهها.

أمية الكتاب
والآن أصبح لزاماً أن نتعرف على أمية الكتاب وأثرها على المجتمع وكيف تناولت الآيات هذه المشكلة، يقول الله سبحانه وتعالى :
1- (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)) سورة البقرة
أمية الكتاب
الآية تتحدث عن أهل الكتاب، وتبين وجود طبقة في المجتمع الكتابي، هذه الطبقة تعيش الأمية في الكتاب فلا تعلم منه شيئاً، لا تعلم مفاهيمه ولا عقائده، الآية الشريفة تنتقد هذه الطبقة، وتنتقد وجود هذه الأمية التي وقع فيها أهل الكتاب من أتباع اليهودية، وهذه فئة من المجتمع لا تعلم من الكتاب شيئاً، على الرغم من أن الكتاب بين أيديهم وبلغتهم إلا أنهم وقعوا في تلك الأمية نتيجة لهجرانهم لكتاب الله وابتعادهم عنه، هذا الهجران أنتج جهلاً كبيراً بأساسيات الكتاب ومبادئ الدين وعقائده الصحيحة، فهؤلاء لا يعلمون من دينهم إلا أمنيات الدخول إلى الجنة، فهم يعتقدون أنهم سيدخلون الجنة لأنهم أبناء الله وأحباءه، وقد ساروا بهذه الكذبة التي كذبوا بها على أنفسهم قرون طويلة، دون أن يعرضوا أمنياتهم تلك على كتاب الله الذي هو بين ظهرنانيهم، وقد اكتفوا بالظنون على الرغم من وجود اليقين بين أيديهم.
2- (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79)) سورة البقرة

كتابات أخرى
ماعلاقة الأمية في الكتاب بمن يكتبون الكتاب بأيديهم؟ هذه كتابات مخالفة لعقائد الكتاب لكنها تجد رواجاً بين أوساط الأميين، إذ ليس بالضرورة أن تكون أمية هؤلاء في القراءة والكتابة، ولكن أميتهم نتجت عن جلهلهم بكتابهم المنزل وابتعادهم عنه، هذا الابتعاد رفع عنهم حصانة المعرفة الربانية فأصبحوا عرضة لأغراض الشيطان، ومرتعاً خصباً لمن يريد أن يتلاعب بالدين وأن يحرفه عن أصوله التي أنزله الله عليها، فهاهنا كتابات أخرى غير كتاب الله تحوي عقائد ما أنزل الله بها من سلطان تجد لها مكاناً في صدورهم خصوصاً لأنها تتساير وتتناغم مع الأهواء. وبهذا تتضح العلاقة بين الآيتين، فالأمية تعني سقوط الحصانة الربانية والعيش في ظلام بسبب اختفاء نور العلم ، وسقوط هذا الحصن المنيع جعلهم هدفاً للعقائد الباطلة التي تخطها أيدي المجرمين.

في مجتمعهم من يكتب ويكذب ويروّج لذلك الكذب باسم الله، وهناك من لا يعارض ولا ينكر ذلك المنكر بل يستقبله ويسير على أساسه. ومن المؤكد أن تلك الكتابات تعزز ما يخالف العدالة الربانية لصالح الطائفة التي ينتمون إليها، وتروج لما يخدر الأنفس عن التعقل والرشد، وتبث عقائد الخصوصية الكاذبة في تعامل الله مع الطائفة، في أن الله خصص لهم من بين بقية البشر طريقة خاصة في المحاسبة يوم القيامة! لماذا؟ لأنهم أبناء الله وأحباؤه كما يدعون، تلك الادعاءات هي مخدرات العقول، وهي حجاب منيع من الاقتراب إلى حقائق الكتاب السماوي، فمن أوصلته كتابات الأكاذيب إلى الجنة بسهولة لا يحتاج إلى مجاهدة النفس التي تفرضها عدالة الكتاب السماوي، فلا هو غريق حتى يتمسك بعروة وثقى، ولا هو ضال فيحتاج إلى هداية أو رشد، لأنه وصل إلى ضمان الآخرة وهو في الدنيا.
(وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111)) سورة البقرة 

3- (وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80))
هكذا يتحدث الأميون في الكتاب، وهذا القول لا يجدونه عند الله ولكنهم يجدونه عند الذين يكذبون على الله، يأخذونه بجهل في كتابهم، نسوا ماذكّروا به من حقائق في الكتاب، نسوا عدل الله، وأن الحساب بالعمل لا بالانتماء، فكانوا قوماً بورا. وهذه  واحدة من أهم نتائج الأمية في الكتاب التي تجعل المجتمع عرضة لتقبل ما يفرضه تيار الإنتماء حتى وإن كان لا يطابق مواصفات الكتاب العزيز.
وهنا تبرز أهمية محو الأمية في الكتاب لأن سقوط حصن العرفة يجعل المجتمع عرضة للأمراض القاتلة في عقيدته وعلاقته الحقيقية مع الله سبحانه وتعالى، أساس المعرفة هو القراءة، تلك القراءة التي كانت ركيزة أساسية في التعامل مع القرآن الكريم الذي اشتق اسمه من كثرة القراءة.


الحلقة السادسة : محو الأمية 
نعمة القراءة
عندما يستعرض القرآن الكريم النعم التي يمنّ بها علينا، فإنه يستحثنا لأن نتفكر ونتوجه إليه لأن التوجه إليه هو تمام ذلك التفكر والتدبر في الآيات الكونية والآيات القرآنية، لقد أنعم الله علينا بنعمة السمع والأبصار والأفئدة لعلنا نشكره ولعلنا نتفكر فيقودنا التفكر إليه سبحانه وتعالى، من النعم التي منّ الله بها علينا هو أن علّمنا الكتابة والقراءة، هذه نعمة فأين شكرها؟ وأين يستحثنا القرآن في صرفها؟ إنه يستحثنا لأن نستثمر هذه الملكة وهذه النعمة في قراءة هذا القرآن الكريم؟
محو الأمية
علمنا من كتاب الله العزيز أن هناك أمية تعد هي الأخطر من نوعها وهي  أمية الكتاب، وهي أن يكون المؤمن الذي أنزل الله على أمته كتاباً أمي في كتابه السماوي، لا يعلم أحكامه ولا شرائعه ولا عقائده. ونعلم أن بقاء الأمية هي نذير خطر  على أي  أمة، فإذا كانت الأمم اليوم تحارب الأمية وتتفاخر بالقضاء  عليها، فإنه من  الواجب علينا أن نضع محو أمية الكتاب في أعلى أهدافنا ومن أوجب واجباتنا. الأمم تمحو الأمية من خلال القضاء على أمية القراءة والكتابة وهذه هي أدنى مستوياتها، ولكن بالقضاء على هذا المستوى من الأمية، لا تنتهي المشكلة، لأن الإنسان حينها يكون قادر على القضاء  على الجهل ولكن بشرط الاطلاع  والقراءة.
 أحد أهم  معايير تقدم الأمم هو عدد الكتب التي يقرأها الفرد في العام  والواحد، ولو افترضنا أن مجتمع ما تمكن من محو أمية ا لقراءة  في جميع أفراده ولكن جميع هؤلاء الأفراد لا يقرأون ولا يطّلعون على مايجري حولهم سيظل أفراد المجتمع في حالة من الأمية، لأن حقيقة الأمية هي أن يكون الفرد جاهلاً في مجال ما، ولا يمتلك القدرة على التعامل في ذلك المجال، ولذلك نرى أن للأمية أنواع: فمنها الأمية الحضارية، الأمية البيئية، أمية الحاسب الآلي الأمية الصحية، وغيرها، كل تلك المسميات أطلقت حسب ما يحتاجه هذا الإنسان حتى يكون فاعلاً منتجاً في مجتمعه، وبالمثل بالنسبة للقرآن الكريم فعدم الاطلاع عليه وعدم فهم مواضيعه يعد أمية كتاب، وكما أن تلك الأنواع من الأميات تهدد المجتمع بالتخلف، كذلك فإن هذه الأمية تهدد المجتمع بالانحدار عقائدياً وفكرياً وفي شتى المجالات،  وإذا كانت خسارة تلك الأميّات في الدنيا،  فإن خسارة أمية الكتاب أفظع لأنها قد تكون في الدنيا والآخرة أعاذنا الله وإياكم من تلك الخسارة. 
القراءة ومحو الأمية
يقول الله سبحانه وتعالى
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)  سورة العلق
أمر القراءة
نعلم أن هذه الآيات الشريفة توجه الخطاب إلى نبي الرحمة محمد (ص)، ولكن هل هذا أمر مختص بالرسول أم أنه أمر متعد، هل هو أمر يخص كل من آمن بهذه الرسالة ؟ أم إنه أمر يتعدى شخص الرسول ولا يقتصر عليه، ويصل إلى كل من آمن بهذا الكتاب، إنه يخاطب كل إنسان في كل زمان ويقول له ( اقرأ )، تعال لنفهم هذه الآيات من خلال فهمنا لأمية الكتاب.
انظر كيف يوجهنا الله سبحانه وتعالى إلى نعمة القراءة والكتابة التي منّ بها علينا، انظر إلى قوله تعالى ( علم بالقلم ) لقد علمك الله بلطفه بهذه الأداة البسيطة علمك ما لم تكن تعلم، والآن بعد أن تعلمت وعلمِت القراءة، فهذا لا يكفي، يجب أن تمحو أميّتك في الكتاب، كما أن للسمع والبصر شكر، كذلك لملكة القراءة شكر، فوظفها في قراءة أهم كتاب وأقدس كلمات، لتحمو الأمية.
 ثم انظر كيف يوجهك لتقييم الآخر من  خلال وعي ومعرفة ( أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى ، أرأيت إن كان على الهدى، أو أمر بالتقوى ) ، الآية تعطي معيار في تقييم الآخر الذي يأمر في الدين وينهى، عليك أن تنظر وتتأمل في قوله : هل هو على هدى أم لا، فإذا كان الهدى بين يديك فبه يمكنك أن تميّز بين الحق والباطل بين من يأمر به وبين من يبعدك عنه وينهاك عنه. 

القرآن والصلاة
ثم تأمل كيف بدأت الآيات بالحديث عن قراءة القرآن، ولكنها أكملت الحديث بالصلاة، في ربط لطيف ، لإنه من قرأ كلمات  القرآن فقد صلى إلى الله سبحانه وتعالى ، وبهذه القراءة تكتمل الصلة بين العبد وربه ، فلا تستمع لمن يريد أن يقطع هذه الصلة ، لا تطع من يريد أن يبعدك عن هذه العلاقة القوية الهامة التي هي سبيل الرشاد.
والحمد لله رب العالمين 

القراءة ومحو الأمية
دعانا الله سبحانه وتعالى وفي أوائل القرآن الكريم أن نكون قراء للقرآن، وهو ما يجب أن يكون عليه حال القرآن بيننا وهو أن نقرأه بكثرة، هذا الأمر الذي خاطب الرسول أولاً هو يتعداه لكل مؤمن آمن بهذا الكتاب، فهذا الأمر ممتد لكل من يؤمن بهذه الكلمات،
"أقرأ باسم ربك الذي خلق" :  يا من تؤمن بهذا الخالق يامن تؤمن بأن هذه الكائنات هي لخالق واحد ، يامن تؤمن أن جسدك هذا بكل مافيه من آيات هو عطاء منه وليس ببدعة منك أو من أي أحد آخر، اقرأ ما يريده خالقك ومالكك أن تقرأه، اقرأ كي تتعلم ما يريده خالقك أن تتعلمه.
"اقرأ وربك الأكرم" الذي أكرمك ولم يكرمك أحد غيره، أكرمك في خلقك، في تسويتك، وها هو يكرمك بتعليمك بتفهيمك بإرشادك وهدايتك، إذا كنت تعتقد أن ذلك الجنين المعلق في رحم أمه هو بإمر الله تعلق وبرعايته ورحمته الذي شمتله كبر حتى خرج من بطن أمه وأصبح طفلاً ثم رجلاً، فهاهو اليوم يخاطبك ويقول لك اقرأ باسمه، اقرأ بإذنه هذه الكلمات لا غيرها،  وبإذنه تقرب إليه فقد أذن لك أن تتقرب إليه بهذه الكلمات التي أنزلها لك.
هذه القراءة هي أساس الصلة بين العبد وبين ربه، والصلة هي أساس الصلاة هي الربطة والرابطة لذلك تتمة الآية تتحدث كما نرى عن الصلاة، " أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى" وكان من المناسب أن تتحدث الآية عن منع قراءة القرآن، ولكنها أكملت على أساس أن قراءتك للقرآن هي صلة،  والصلاة هي أعلى مراتب تلك الصلة وأعلى تجلياتها، فقد تقرأ القرآن وأنت جالس، وقد تختار أن تقرأ القرآن وأنت تصلي، و الصلاة أفضل أوضاع قراءة القرآن، لذا فالآية تكمل وتقول "أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى" ؟ وهذا ما يوضح ويؤكد لنا أنه لا  انفكاك بين قراءة القرآن وبين الصلاة، كما بيّنت ذلك آيات أخرى، ولوجود هذا الارتباط يمكننا أن نفهم أنه لا انفكاك أيضاً بين الهدى الذي يمكن أن يدخل إلى قلوبنا من هذه الكلمات النورانية وبين إقامة الصلاة بحق إقامتها، وأن الصلاة هي أحد مواطن نزول هدى الكتاب على الإنسان "اهدنا الصراط المستقيم".
 في السورة تكامل بين الموجد وهو الله وسبب الوجود وهي حقائق الكتاب، أوجدك خالق، وفي هذا الكتاب هو سر وجودك وسببه، خالقك أكرمك في خلقتك وهو يكرمك اليوم في إرساله هذا الكتاب، وسيكرمك بالهدى بواسطة هذه الكلمات، هو اللطيف الذي يعلم الإنسان بخفاء ويرعاه بلطف، وهنا يضمن له التعليم بالقلم، فامسك القلم وتعلم كتاب الله.
إذاً منذ البدايات وهذا القرآن يأمر المؤمن أن يكون قارئاً متعلماً مطلعاً متعرفاً على حقائق الكتاب، وأن يعلق قلبه بكلماته ولا ينساها حتى لا يخر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق. وما نتيجة عدم القراءة ؟ هو الأمية والسفه والتي تقود الإنسان إلى الهلكة، وإذا كانت أمية المجتمع في القراءة والكتابة وعدم الاطلاع تقوده إلى التراجع والتدني بين الأمم فمن المحتم أن أمية الكتاب تقود إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير لأن خسارة الآخرة لا تقارن بخسارة الدنيا.
المجتمع الرشيد الذي يسعى القرآن الكريم لتنشئته هو مجتمع قارئ مطلع لا ينعق وراء كل ناعق ولا يسير خلف كل راية بل إنه يسير على بينة من ربه من خلال اقترابه من كتاب الله ومن خلال كثرة القراءة لهذا الكتاب المجيد والحمد لله رب العالمين.، والحمد لله رب العالمين.

الحلقة السابعة: تقدير الكتاب

س: ما قدر هذا الكتاب؟ وما قدر آياته ، وما هي المسافة التي يمكن أن نضعها للمقارنة بين هذا الكتاب وأي كتاب آخر ؟
وصف الله سبحانه وتعالى كتابه العزيز بأنه صحف مكرمة مرفوعة مطهرة ( كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ (12فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) )، أنزل الله سبحانه وتعالى هذه الصحف في ليلة مباركة هي خير من ألف شهر، وحين أنزله أنزله مكرماً محفوفاً بالسفراء الكرام البررة من الملائكة، لأنهم يحملون كلام الخالق للمخلوق، كلام الله المتعالي عن خلقه إلى هذا المخلوق على هذه الأرض. وقد فرض الله سبحانه وتعالى على المسلم المؤمن صيام شهر رمضان في كل عام طيلة حياته شكراً لنعمة إنزال هذا الكتاب، وفي نهاية صيام شهر رمضان نكبّر الله على نعمة الهدى والفرقان الذي أنزله الله سبحانه وتعالى لهذه البشرية بصورة عامة وللناطقين باللغة العربية بصورة خاصة، وأوصى الذين أنزل عليهم أن يكونوا هم واسطةً للناس لنقل هذا الهدى وهذا النور لبقية شعوب العالم.
عندما نبحث عن إجابة عن سؤال المسافة بين هذا الكتاب وبين أي كتاب آخر فهي نفس المسافة بين السماء والأرض التي هي المسافة اللامتناهية التي تنفي أن يكون هناك أي وجه مقارنة، فأي كتاب حظي بهذا التقدير وهذا التكريم من قبل الله سبحانه وتعالى؟  بل إن السؤال نفسه يظلم القرآن إذ لا يمكن أن نضعه في صياغة مقارنة بينه وبين أي كلام آخر وأي عبارة أخرى، فكل جملة من جمله يسميها الله سبحانه وتعالى "آية" ، والآية هي أبلغ من البرهان على دلالتها وقوة إشارتها على كونها لا تصدر إلا منه سبحانه وتعالى. إذا لا يقارن هذا الكتاب بأي كتاب آخر، لأن قدر آياته عظيم جداً، وعالٍ جداً يعلوا عن أي كلام وعباراته عن أي عبارات، وأي تقليل من قدر هذه الكلمات هو ملازم للتقليل من قدره سبحانه وتعالى.
س: ماهو الاعتبار الحقيقي إلى هذه الكلمات، وكيف يأمر المؤمنين أن يتعاملوا معها؟
إن مشكلة الأمم السابقة ليس في عدم  معرفة الله، ولكنه عدم تقدير الله سبحانه وتعالى، وتقدير كلمات الله هو  أبرز ملامح التقدير الحقيقي لله. 

تقدير القرآن
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام آية (91)
(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91))

1- تجعلونه قراطيس
للآية الشريفة أبعاد كثيرة، لكننا هنا في صدد تناول وصف القرآن للكتب السماوية وكيف يجب أن نتعامل معها؟ الآية تخاطب أهل الكتاب الذين ابتعدوا عن كتبهم السماوية، ويقول لهم في تعاملهم السطحي مع الكتاب : " تجعلونه قراطيس " وهذا تعبير عن طريقة تعاملهم مع هذا الكتاب المقدس، الآية تخاطب أهل الكتاب وتقول أنكم تتعاملون معه كما تتعاملون مع أي كتاب آخر، وتعتبرونه مجرد كتاب، والآية توبخ المتعامل مع الكتاب على أنه قراطيس؟ لكن الكتاب السماوي موثق في قراطيس، هذا الذي تراه العين وهذا هو واقع البصر، لكن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعي أن هذا الكتاب أكبر من كونه قرطاس يضم في جوانبه كلمات، لأن هذه الكلمات تابعة له سبحانه وتعالى.
2- وما قدروا الله
الآية توبخهم على تعاملهم السطحي مع الكتاب، وتتهمهم بعدم تقدير الله، لأن هذا الكتاب الذي بين أيديهم هو مصدر نور وهدى وهم يحملون مسؤولية تبليغ هذا الهدى للناس، ولكنهم حجبوا بعض من هداه ونوره عن الناس تمشياً مع مصالحهم، لماذا؟ لأنهم بدّلوا ما أنزل الله ، بدلوه في الأحكام وفي العقائد، وما عادوا يتطابقون معه، فلا يريدون من الكتاب أن يكشفهم، لا يريدون من الكتاب أن يفضحهم ، فتعمدوا إخفاء بعض آياته، وهنا كان سوء التقدير، جعلوه مجرد كتاب يخفون ما يريدون إخفاءه ويظهرون ما يريدون، هكذا أصبح الكتاب السماوي مجرد مصدر من مصادر  التأييد لما هم عليه بدلاً من أن يكون بمثابة السيد للعبد، ولأن الكتاب لم يعد سيداً، لم يقدّروا الله حق قدره.
3- قدر الكتاب من قدر الله
لا يمكننا أن نفك هذا الارتباط، فكما نقدر الله، علينا أن نقدر هذا الكتاب ونضعه موضع السيادة وهو الآمر الناهي.
إذاً هذا الكتاب الذي هو بين أيدينا (القرآن الكريم ) ليس مجرد كلمات في قرطاس، إنه نور ونوره حي لأن صاحبه هو الحي الذي يحيي ويميت، وكلماته هي النور الذي يسكن في القلوب، وقد وجدنا في الحلقة السابقة أن لقراءة القرآن علاقة وطيدة بالصلاة، ويمكننا أن نلحظ ذلك في الآية التالية: 

القرآن والصلاة
(وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92))
وهذا كتاب أنزلناه مبارك : إشارة إلى القرآن الكريم، وأن القرآن الكريم مصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، الآية تقول أن الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بهذا الكتاب، وهم على صلاتهم يحافظون. الذين كفروا برسالة النبي محمد(ص) يعلمون أنه مصدق لما معهم، ويعلمون أنه مصداق لما وعدهم الله في التوراة، ولكنهم أخفوا هذه الحقيقة في التوراة بغية أن لا تتم محاججتهم، فهم بهذا قد ضيعوا التوراة ولم يقدروها ، أما الذين آمنوا بما نزّل على محمد وهو الحق مصدق لما معهم فهم اتبعوا الحقيقة التي كتبها الله لهم في التوراة، " النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم  في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر" ، وهنا نتحدث عن مبدأ الإحلال في هذه الآية، فما الذي نقصده بمبدأ الإحلال؟
أن النقيض للذين لم يؤمنوا بالرسول هم الذين آمنوا، والنقيض للذين لم يقدروا كلمات الله ، هو الذين قدروا كلمات  الله، ولكن هنا قوله تعالى : " وهم على صلاتهم يحافظون " حلت محل عبارة تقدير الكتاب، وهذا يؤكد ما وجدناه في الحلقة السابقة من أن الإيمان بالكتاب كله هو المصداق الحقيقي للمحافظة على الصلاة، وأن تضييع قيم الكتاب السماوي هو تضييع وهدم  للصلاة الحقيقية والحمد لله رب العالمين.



الحلقة الثامنة : القرآن والصلاة 
مقدمة
لابد وقبل أن نتعامل مع القرآن أن نعي الدرجة التي يجب أن نضعه فيها حسب ما يريد الله، والمتتبع بإمعان للآيات يرى وجوب تعظيم  هذا الكتاب، وأن إنزاله منزلة أقل من قدره الذي أنزله الله فيه تكون سبباً في حجب نوره ورفع هداه، فإذا كان هدفنا كمتدبرين أن نتخذ من القرآن سبيلاً ومنهاجا علينا أن نأخذه من حيث يطلب هو لا من حيث نطلب نحن ولا من حيث نتصور نحن، ولا من حيث ما توراثناه من طريقة في التعامل مع هذا الكتاب العظيم، ولكن من حيث ما تنص آياته وما تتحدث به بيّناته عن درجته ومكانته. وقبل أن نأخذه كنص يحتاج إلى تفكيك وتحليل في مختبرات اللغة، هو نص يتعبد به إلى الله، هو ذكر المؤمن ومعراجه للتقرب لله.
تعاملنا مع القرآن يجب أن يكون مختلفًا عن تعاملنا مع أي كتاب آخر، لأننا لا نتعامل مع نص عادي، هذا الحديث هو حديث الله وتعاملنا مع هذا النص لا ينفك عن تعاملنا مع صاحب النص، فأي درجة من تعظيم الآيات تتوجب على المؤمن في تعامله مع القرآن؟ القرآن هو قول الحق سبحانه وتعالى، والآيات تفرض أن تكون علاقتنا معه علاقة تعظيم وخشوع متناهي لكل آياته، وعندما نجد آية تستنكر على الكفار عدم السجود عند سماع آية، فإنها لا تستنكر عدم السجود عند تلاوة آية محددة بل تستنكر لعدم السجود عند سماع أي آية من آيات القرآن، فالعظمة للقرآن كاملاً وليس لآية دون أخرى، ولا يفسّر هذا المطلب إلا الارتباط الوثيق بين القول والقائل، فالسجود يكون لله سبحانه وتعالى، وهذه الآيات تنسب له وحده، ومن خلال هذا الشعور كان لزاماً السجود للقائل، فأولئك الذين سجدوا حين سمعوا القرآن أول مرة وآمنوا به مباشرة وفي نفس اللحظة التي سمعوه فيها إنما انتابهم ذلك الشعور لأنهم شعروا بأن المتحدث هو الله، وهذا يعني أن الآيات اخترقت كل الحجب ووصلت إلى القلب كآية تدل على الخالق عز وجل.

القرآن والصلاة
ما علاقة الصلاة بالقرآن الكريم؟ هل هناك علاقة؟
قراءة القرآن والسجود
وجدنا في آيتين في سورتين مختلفتين وجوب السجود للقرآن عند سماعه، وقد نجد ذلك منسجماً مع سورة العلق والتي فهمنا منها وجوب قراءة القرآن لمحاربة الأمية في الكتاب، وقد بدأت الآية بأمر قراءة القرآن، وانتهت بأمر السجود، وتوسط السورة الامتناع عن الاستجابة لمن ينهى عن الصلاة.
القرآن والصلاة
فهمنا من هذه السورة سابقًا وجوب قراءة القرآن ووجوب محو أمية الكتاب، واليوم نتناول ذات السورة ولكن من زاوية أخرى وهي علاقة الصلاة بالقرآن. بدأت السورة بأمر وانتهت بأمر آخر، بدأت بأمر القراءة وتعني بها قراءة القرآن الكريم " اقرأ باسم ربك الذي خلق" وانتهت بأمر السجود لله اقتراباً منه سبحانه وتعالى.
سنتناول السورة كوحدة واحدة لأنها تتحدث في سياق واحد ، السورة تقول في بدايتها " اقرأ "، وانتهت بأمر السجود، وتوسطها نهي عن الاستجابة لمن ينهى عن الصلاة، الأمر بالسجود لوجود الصلاة، لأن الآية تقول " أرأيت الذي ينهى " ثم تقول " كلا لا تطعه" لا تطع هذا الذي ينهى، وعندما قالت "كلا" لم تقل كلا لا تطعه وأقم الصلاة، بل أمرت بالسجود. وبالمثل السورة أمرت بقراءة القرآن في بداية السورة ثم عطفت ذلك بالقول " أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى" وكان بالإمكان أن نقرأ هذه العبارة "أرأيت الذي ينهى عبدًا عن قراءة القرآن" ، ومن هنا يمكننا أن نلخص السورة في عبارة واحدة : قراءة فصلاة فسجود. لا صلاة بلا سجود، ولا صلاة بلا قراءة قرآن، قراءة القرآن هو أساس الصلاة ولبها.
السجود هو نافذة القرب من الله، وأن مدخل ذلك الاقتراب هو القراءة الواعية التي تهيئ الإنسان لصلاة سليمة مع الله. والآن نجد أن تلك السورة اختزلت كلاً من قراءة القرآن والصلاة في آن واحد، ومزجت بينهما وانتهت بأمر بالسجود، والسجود كما أنه ركن من أركان الصلاة، نفهم أن له علاقة بقراءة القرآن أيضاً، فيمكننا أن نقول أن السورة أمرت بالسجود حين تحدثت عن الصلاة، ويمكننا أن نقول أن السورة أمرت السجود لأنها أمرت بقراءة القرآن، وهنا يتماهي الاثنان في منحىً واحد وفي مسار واحد تتجلى فيه علاقة المؤمن بربه بصورة مباشرة .

القرآن والصلاة
ومرة أخرى نجد رابطاً بين قراءة القرآن والصلاة، فالصلاة الحقيقية هي التي تجسد الوقوف أمام الله، ولهذه الوقفة خشوعها، وهنا يفرض القرآن الكريم أن نقرأه بذات الحالة، ومن هذا التناظر بين الصلاة والقرآن يمكننا أن نؤسس لعلاقة حقيقية مع القرآن الكريم ولفهم متكامل.  ففي الصلاة نتوجه لله باتجاه القبلة ولا تقبل للمصلي صلاة يتوجه بها لاتجاه آخر،  ولهذا المفهوم انعكاس أيضًا في التعامل مع القرآن الكريم،  فحين يتوجه المؤمن للقرآن الكريم معتمداً على أنه كتابه الرسمي من عند الله فهو يسلم وجهه لله بهذا الكتاب الذي يتعبد به إلى الله، و يعزل نفسه عن أي مصدر آخر ولا يتوجه لغيره، ولا يمكن لعباداته ومعتقداته أن تقبل ما لم يكن القرآن مصدرها الأساس لأن التعامل مع الكتاب يمثل التوحيد الحقيقي مع الله سبحانه وتعالى. ولقد رأينا في آية 92 من سورة الأنعام أن المحافظ على الصلاة هو في حقيقته المحافظ على الكتاب، والملتزم بمفاهيمه والمؤتمر بأمره لا بسواه.
القرآن والصلاة والوعي
هدف السورة هو إيقاظ الوعي بالقراءة، ونريد أن نصل إلى مرحلة من التكامل في هذه السورة، فالقراءة هي مصدر الوعي، ولكن ما يجب أن نعلمه أن القرآن والوعي القرآني ليس منفكاً عن الصلاة، فلابد من علاقة صحيحة مع الله، وبداية تلك العلاقة واقتراب لله، ولذا كان السجود الذي يكون فيه المؤمن أقرب ما يمكن لربه.

أصل إقامة الصلاة
(إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14)) سورة طه
الآية تجعل من الذكر أساس في إقامة الصلاة، ونعلم أن القرآن الكريم هو أصدق مصاديق هذا الذكر لقوله تعالى : " إنا نحن نزلنا الذكر  وإنا له لحافظون" على أن الذكر هو ما أنزله الله سبحانه وتعالى من آيات بينات في كتبه السماوية. وهنا نفهم أن الصلاة هي موقع من مواقع المحافظة على الذكر، المحافظة على القرآن الكريم، وحتى لا نضيع الصلاة علينا أن لا نضيع هذا الكتاب ولا نغفل عنه ولا نتناساه أو  ننساه فقيمة الذكر عالية كما تبين هذه الآية الشريفة . 

الحلقة التاسعة : الذكر 

مقدمة 
" إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" . " الذكر " هو ضد النسيان، وتذكر القرآن هذا يعني عدم نسيان وصايا الله وعهوده إلينا، إذ أن بيننا وبين الله عهود ومواثيق ووعود، كتبت في هذا الكتاب العزيز ، ومطلوب من المؤمن أن يظل ذاكراً لها غير ناس.
متلازمة الذكر هي كثرة القراءة وليس القراءة القليلة، وكثرة المراجعة لأن النسيان مشكلة أصيلة في الإنسان، الدنيا تنسي الآخرة والأمنيات تنسي الحقائق والغرور ينسي القسط الرباني، وهكذا كل مافي الإنسان من صفات الطين في عالم الشهادة تنسيه حقائق الروح في عالم الغيب.
" الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً " أعطى الله سبحانه وتعالى إسم الذكر للقرآن الكريم، حتى يكون القرآن مذكراً له لأنه يريد من المؤمن أن يكون ذاكراً على الدوام، وسميت الصلاة بالذكر لأنها موضع من مواضع التذكير ، بأفعالها وتسبيحها وبتلاوة القرآن الكريم، فإذا صحح الإنسان مساره بناءًا على هذا القرآن والحكم الرباني فقد أحدثت له الصلاة والقرآن ذكراً، والتذكر هو التراجع عن الخطأ والعودة إلى طريق الجادة كما يريده الله، وإذا لم يغير إلى مايريده الله فهذا يعني أنه لم يتذكر، " وإذا ذكروا لا يذكرون".

سورة طه
في نهاية سورة طه وبالتحديد من الآية (99) حديث عن القرآن تحت عنوان الذكر،
من آية (99) إلى (101)
ما أنزله الله سبحانه وتعالى على الرسول هو ذكر، والإعراض عن هذا الذكر يحمل الإنسان أوزاراً يوم القيامة، وسيعاقف على هذا الإعراض.
أية (113)
القرآن عربي ولعله يحدث للعرب الناطقين به ذكرا، أي أن يغيروا عقائدهم ويتوجهوا نحو ما يريده الله منهم .
آية (115)
العهد الذي بين آدم وبين الله هو أن لا يقرب هذه الشجرة وأن الشيطان عدو له ولزوجه، وحتى لا ينسى الإنسان عهوده مع الله عليه أن يلازم العهد، وبهذا يتحول العهد إلى ذكر  يكثر من قراءته ومراجعته حتى لا ينسى عهوده مع الله، وهذا يحتاج إلى عزم، أما بالتراخي فإن الإنسان معرض للنسيان ، وعندها فقط يكون عرضة للشيطان.
من آية (123) إلى آية (126)
هذا القرآن هو الهدى هو النور الذي يضيء الدروب لأنه ذكر يذّكر المؤمن بصورة دائمة مستمرة، وهذا الهدى هو نفسه الذكر كما  تبين الآية اللاحقة وتكرر مشكلة الإعراض عن القرآن عن الذكر نفس عقوبة من يعرض عن هذا الكتاب،
" كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى"
هنا تبرز مشكلتنا مع هذا الكتاب وهي أننا ننساه، والقرآن هو أهم مصدر من مصادر التذكير أهم مصدر لغذاء النفس وتذكرها بالمهام الربانية. وهكذا فإن الآية تبرز أهمية الاستفادة من نعمة البصر وتفعيلها في التقرب من هذا الكتاب العزيز.

الصلاة والذكر
الآيات السالفة كلها مترابطة ولكننا أخذنا مقاطع منها فقط فيما يخدم سياق الحديث عن الذكر، ونختم هنا ما بدأنا به الحديث أن للصلاة علاقة بالذكر، ومع ورود الحديث عن الذكر في هذه السورة وخصوصاً في الجزء الأخير منها نجد ذكراً للصلاة في الآيات الأخيرة للسورة تقول الآية الشريفة آية (132) (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
وفي هذا دلالة أخرى لعلاقة الصلاة بالذكر، وأن الصلاة هي موضع من مواضع الحفاظ على هذا الذكر الذي أنزله الله سبحانه وتعالى إلى بني البشر.

هذه حقائق رباينة ويبقى أن نعي مدى انطباق جزء أو شيء أو كل من هذه الحقائق على حياتنا فقد نكون قد وقعنا في شيء منها، فالآية الشريفة عندما تقول " من أعرض عن ذكري" فبعد أن نفهم الإعراض لغوياً فهذا لا يكفي، لأبد من الشعور، الشعور بمدى انطباق حالة الإعراض علينا أو عدم انطباقها، وهذا يحتاج  إلى شعور وتقوى وليس إلى علم ودقة وحسب، والشعور ليس قانون؟ وهو معيار وبمقدار ما يتحرك هذا المعيار ويكون الإنسان المؤمن قريب من الله بقدر ما يشعر أكثر ويخاف أن يكون مُعرضاً بعيداً عن كتاب الله. أما عندما يكون الإنسان غافلاً فإنه لن يكترث لخطورة هذه الكلمة وسيرى نفسه يوجه الاتهام للأقوام السابقة ليبرئ ساحته.


القرآن الكريم يريد منا أن نتعامل معه بشكل مباشر، وهو الضامن لنا الهدى والحياة الكريمة ولكن هذا الضمان يحتاج إلى إيمان ولا تكفي القناعة أو الاعتراف، " فلا يضل ولا يشقى" لا يضل في الدنيا ولا يشقى؟ إذا كانت هذه هذ الضمانة الربانية فلماذا يخشى على الذي يتعامل مع الله من  خلال هذه الكتاب المنزل؟ وبشكل مباشر؟ بإنه يضل؟ كيف يضل والله أعطاه الضمان في كتابه؟ حين قال له : اتبع هذا النظام وهذا الذكر ولا تنساه لتكون في مأمن يوم القيامة.


الحلقة العاشرة : العشاء القرآني 

مقدمة
الله يريد منا علاقة مميزة خاصة دائمة مستمرة لا تهاون فيها ولا تغافل مع هذا الكتاب، أن نجعله درعاً حصيناً ضد هجمات الشيطان ومكائده، ولن ينجو ذكي أو فطن من تلك المكائد مالم يجعل من هذا القرآن حصنه الحصين ودرعه المنيع، والشياطين ينتظرون اللحظة التي يتغافل فيها المؤمن عن هذا الكتاب وليس فقط يعرض  عنه، وينتظرون اللحظة التي يسعى المؤمن بهذا الكتاب أن يتعامل معه بسطحية أو بهوى أو مرض قلب حتى يكونوا حاضرين ليأخذوا هذا المؤمن إلى واد آخر وإلى دين آخر غير الذي أنزله الله. تحدثنا في الحلقة السابقة عن أحد أهم مسميات القرآن الكريم وهو "الذكر" وقلنا أن متلازمة ذلك الذكر هو كثرة القراءة، والله سبحانه وتعالى لا يريد منا قراءة سطحية، وإنما قراءة واعية تحصن الإنسان من الهجمات الفكرية التي يصطنعها الشيطان الرجيم لهذا الدين، وقد مررنا على آية هامة جداً وهي :
(قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)) سورة طه

العمى القرآني
(قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)) سورة طه
العمى يوم القيامة هو عاقبة الإعراض والعمي الدنيوي عن آيات الله، العمى عن الكتاب هو عمىً اختياري فالأنسان يختاره بنفسه بالإعراض عن آيات الله، ولكنه يحشر يوم القيامة مكرهاً على العمى كنتيجة لعمله.
ولكن أين تكون البداية لهذا العمى؟
بداية هذا  العمى هو العشاء القرآني وهو  أن يختار الإنسان أن يعشو عن القرآن، أن يتغافل عنه باختياره أيضاً، فما هو العشاء القرآني؟ سورة الزخرف في آية (36) تتحدث عن ذلك العشاء.

العشاء القرآني
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)) سورة الزخرف.
العشاء في الوقت هو بعد مغيب الشمس وقبل العتمة، في الوقت الذي تتضاءل فيه رؤية الأشياء، فلو أضاع أحدنا غرضاً أو شيئاً في الفضاء الخارجي، ثم جاء هذا الوقت ستتضاءل فيه رؤية الأشياء عن حقيقتها وسيصعب تمييز ذلك الشيء الضائع حيث تتحول فيه الأجسام إلى خيالات يصعب على العين تمييزها.
"ومن يعشُ عن ذكر الرحمن": هو يختار أن يغيب عن الرؤية، هو يختار أن لا يرى الأشياء على حقيقتها، يعشُ عن ماذا؟ عن ذكر الرحمن عن ما أنزل الله من  الآيات بينات، لم يعمَ بعد، ولم يعرض بعد ،  لكنه اختار أن تكون علاقته مع الكتاب علاقة سطحية بحيث لا يرى الأشياء كما هي وعلى حقيقتها، لقد غيب بهذه العلاقة السطحية صورة الأشياء فلم تبدو على حقيقتها، وبدأت الحقائق تتحول إلى خيالات لا يجزم بوجودها، ومن الذي اختار هذه الحالة؟ هو هذا المؤمن المؤمن بالكتاب. فما نتيجة هذا الفعل؟
" نقيّض له شيطانا فهو له قرين" : من الذي  سيقيض له شيطاناً ؟ هو الله سبحانه وتعالى، وهذا التقييض عقاب له على هذا التغافل والتعامي عن حقائق  الكتاب، وسيكون الشيطان له قرين، ملازم له ؟ لماذا؟ لربما أضاءت له آية من آيات الكتاب نوراً ولعلها تهديه وتعيده إلى الحقيقة في لحظة من اللحظات، فيأتي هذا الشيطان ليطفئ نور هذه الآية ويصرفه عن  حقيتها. ما هو دور هذا الشيطان وأقرانه من الشياطين؟
" وإنهم ليصدونهم عن السبيل"
يصدون عن السبيل، عن السبيل الذي يريده الله سبحانه وتعالى، والذي أوضحه في كتابه، والذي اختار هذا المؤمن أن يعش عنه حتى لا يراه ولا يشاهد حقائقه بعد اليوم.
"ويحسبون أنهم مهتدون "
من الذين يحسبون أنهم مهتدون؟ أولئك الذين تعاملوا بسطيحة وتغافل عن حقائق الكتاب! هذه هي مصيبة هذه العقوبة، أن الشيطان لديه القدرة بأن يوحي للمبتعدين عن القرآن أنهم مهتدون، وهذا يدل على أن الشيطان يصنع لهذا المؤمن دين آخر غير الدين الذي أنزله الله ويطمئن هذا المتبع بأن هذا هو ما يريده الله، وأن هذه هي الهداية.
إذاً بمجرد أن يتعامل هذا المؤمن مع هذا الكتاب "بعشاوة" يجعل الله على قلبه "غشاوة"، وبمجرد أن ينشغل إلى غيره ويقلل من أهمية هذا الكتاب تسقط حصانته، ويسقط حصنه المنيع الذي كان مصنوعاً من ذكر الله، هذا الحصن هو حصن عقائدي فكري يحصن المؤمن من مكائد إبليس الرجيم الذي يعمل على إبعاد الناس عن حقيقة الكتاب، ولأن القراءة الواعية هي المطلب أسمى الفعل الذي يقود المؤمن لهذه العقوبة العشيان والذي يقع في بصر الإنسان.
الشيطان يتحايل على المؤمن داخل الدين وليس خارجه، وهذه عقوبة ربانية شديدة تدفع بالإنسان للحذر من التعامل مع هذا الكتاب بإعراض أو حتى بتغافل عن حقيقة من حقائقه وتحمل المؤمن مسؤولية التعاطي الإيجابي مع القرآن الكريم، وأن يفتح المؤمن قلبه وبصره وبصيرته لهذا القرآن، وأن يعميها عن التيارات والأحزاب التي تجرف الإنسان وتبعده عما يريد الله سبحانه وتعالى.
(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44))
الله يأمر نبيه محمد (ص) أن يستمسك بهذا الكتاب لأنه الصراط المستقيم الذي يريد الشيطان أن يقعد ليحرف الناس عنه إلى غيره، والله سبحانه وتعالى يقول للنبي محمد أن هذا القرآن هو ذكره وذكر قومه وذكر من  آمن بهذه الرسالة " وسوف تسألون " عن ماذا ؟ عن كيف تعاملتم مع هذا الكتاب؟ كيف تعاطيتم معه، هل أبصرتموه أم تعاميتم عنه، هل بحثتم عن مساوأكم لإصلاحها أم تغش أبصاركم الأوهام.