كان اليهود والنصارى كل يتحدث عن ديانته على أنها السبيل الوحيد للخلاص، وكان القرآن الكريم يعارض ذلك المعتقد ويصححه ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾[1] ، على أن ملة إبراهيم تتطلب مسؤولية الإنسان عن نفسه بامتلاك الوعي والقدرة على اتخاذ القرار، فلا يفكر عنه أحد، ولا يقرر عنه أحد.
لا ينفي القرآن الكريم مبدأ النجاة بالانتماء على أساس أن هناك انتماء أصح من آخر، لكنه يخالف مبدأ التبعية العمياء ويضع في قبال ذلك مبدأ حرية الفكر ومسؤولية الفرد مسؤولية تامة عن قراراته المصيرية بلا وصاية من أحد.
لقد تأسست ملة إبراهيم التي امتدحها الله سبحانه وتعالى في كتابه على أساس الانتقاد والمساءلة الفردية الواعية والفاحصة للموروث وكليات الدين ومعتقدات الآباء، فحنفية إبراهيم لا تبالي بالمكانة الاجتماعية للأشياء والمعتقدات ما لم تلامس فطرة الإنسان وتثبت على قاعدة الحقيقة.
وإذ أن القرآن الكريم لم يُخصَّص لطبقة محددة، فهو يوجه خطابه لكافة الناس ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾[2] ، وعلى أساس مسؤولية الفرد نجد أن حديث القرآن موجه للإنسان كونه قادراً على فهم كلام الله البين الواضح، يستمع القول فيتبع أحسنه. والنص القرآني وثيقة ربانية كاشفة لحقيقة الدين الذي يريده الله سبحانه وتعالى من البشر دون تلبيس للحق بالباطل من أي جهة كانت، وهذا بدوره يقود إلى تحول المجتمعات المسلمة المؤمنة بالكتاب السماوي إلى مجتمعات مفكرة وناقدة، لا مستهلكة للأفكار مجترة لها دون تمحيص وتدقيق، فلا تأخذ ما ترثه وما تراه أمامها دون الرجوع للنص القرآني الحافظ لأساسيات الدين والمحفوظ من رب العالمين. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾[3] .
في المقابل فإن الفكر الانتمائي الطائفي فكر إقصائي، يريد من الإنسان أن يقلل من ذلك الحق في التفكير بل ويحاول جاهداً في كبته وإلغائه وأن يوقف قوة التساؤل التي تقارن وتنتقد ما حولها وخصوصاً موروثات الآباء ومعتقداتهم، فبرفع الصوت وتشويه المخالف للرأي تارة وتلبيس الحق بالباطل والتمظهر بجلباب الحقيقة تارة أخرى، يُخرَس كل باحث عن الحقيقة، وتُفرض الوصاية على المجتمع، وتتوقف عجلة التفكير والتأمل في لب الأشياء وتنحسر قوة الانتقاد إلا في القشور، ويتحول الفرد إلى عنصر مستهلك، ونسخة مكررة تتعايش في محيطها، تردد دون تفكير «يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً».
ويلقي القرآن الكريم المسؤولية أمام المؤمنين فرداً فرداً قائلاً: من واجبكم ترشيح الموروث الديني وفرز ما لم ينزل الله به سلطاناً، وطرد ما اعترى صفاءه من تداخل الأهواء على مر العصور بالرجوع لهذه الوثيقة البينة ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾[4] ، وتبقى النفوس المتحررة من الأغلال هي وحدها القادرة على اكتشاف الأباطيل واقتلاعها من الجذور.
يطرح القرآن الكريم الاتباع على أساس مبدأ أن الرجال يُعرفون بالحق الذي هو من عنده لا أن يعرف الحق بالرجال، فالانتماء لملة إبراهيم يعني كسر الأغلال التي تفضي إلى حرية لا تعيق التفكير. وحين يقول القرآن الكريم ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾[5] يريد من المؤمن أن يحدد الهداية بنفسه حتى يتمكن من تمييز الاتباع الصحيح، فالإمامة البشرية تتحدد من خلال الإمامة القرآنية النيرة.
يظل الكتاب السماوي المصدر الصحيح للحقائق الربانية، ونقطة استقطاب لذوي الألباب والعقول المتحررة، ولطالما عانى الدين من التغييب والاحتكار، ولطالما اعترته الأباطيل. وإن القرآن الكريم يستنقذ الدين من تلك الأباطيل باستنقاذ الفرد المؤمن من السفاهة والتبعية العمياء، التي تريد منه أن يبقى متشدداً لموروثه.. معطل الفكر والحواس.
نشر في موقع راصد الإخباري https://www.rasid.com/?act=artc&id=54979
نشر في موقع جهينة الإخباري https://www.juhaina.net/?act=artc&id=10914