الثلاثاء، 22 نوفمبر 2016

فهم في آية (85) من سورة البقرة

تتحدث آية (85) من سورة البقرة عن تعامي بني إسرائيل عن أحد أهم الأوامر الربانية التي أمروا بها في الكتاب وهي أن لا يسفكوا دماء بعضهم البعض ولا يخرجوا أحداً من دياره بغير حق. ولكنهم لم يصمدوا بهذا الأمر أمام شهوة العلو والانتقام على الرغم من أنه أُخذ عليهم كميثاق لما له من أهمية ولضرورة الالتزام به.
وبغض النظر عن التفاصيل فإن الآية تناقش مزاحمة قيم ومبادئ - وقد تكون نصوصاً أخرى - للنص الأصلي النازل من رب السماء والذي واثقهم الله به بعد أن رفع فوقهم الطور ليأخذوا ما أوتوا بقوة ثم تولوا إلا قليلاً منهم وهم معرضون. وماهي تلك القيم الدخيلة التي زاحمت قيم العدالة في الكتاب ياترى؟ إنها قيم العلو والاستكبار والنزعة إلى أن يسود المعتقد والفكر الواحد في كل ديارهم! تلك القيم لم تزاحم النص الرباني وحسب بل إنها عمت القلوب عنه، فراحت إحدى طوائف بني إسرائيل تعلو على الأخرى، على الرغم من أن الطائفة الأخرى هي من بني إسرائيل وتؤمن بالتوراة أيضاً وإن يأتوهم أسارى يفادوهم طبقاً للتعاليم، ولكن تفريق الدين أدى إلى الخلاف و الاختلاف في التفاصيل فميّز طائفة أو قبيلة على أخرى.
( ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ َتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(1).
والآية تتساءل لماذا تطبقون تعاليم الفدية لهذه الطائفة المعتدى عليها في حال الأسر ولا تطبقون تعاليم منع الاعتداء بالقتل أو الإخراج من الديار؟ أيصدق إيمانكم حين تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟
هذه الآيات التي جاءت عقب الحديث عن قسوة قلوبهم في قصة البقرة، تؤكد أن بني إسرائيل مخالفون لتعاليم الكتاب السماوي، ولا يمثلون بأفعالهم تلك تعاليم التوراة وما أُنزل عليهم، فهم ناقضون لعهودهم ومواثيقهم مع الله، وهي تؤكد أيضاً على براءة الله وكتبه من قتل الإفساد وإخراج الأبرياء من الديار والاعتداء الآثم على الغير، ويرجعهم في التحقق من ذلك إلى شهادتهم بالتوراة " وأنتم تشهدون"، أي أنكم تشهدون بأن الله لم يأمر بهذا بل أمر بالعدل والإحسان  واحترام حقوق الآخرين وممتلكاتهم. (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)(2) وفي الآيات بيان مهم آخر وهو أن تعاليم الكتاب لا تُجزأ فنأخذ منها ما يلائم ونستثني منها ما يجافي الأهواء فنؤمن ببعض ونكفر ببعض. وعلى من يتحمل مسؤولية حمل الكتاب أن يتحمل تبعاته، فإما أن يمدد الله أهله بأموال وبنين ويرسل السماء عليهم مدرارا ليأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم إن هم أقاموه وقدروه حق قدره، أو أن يقيموا أهواءهم بدلاً منه وينحرفوا عن بيّن آياته فينالهم نصيبهم من الكتاب بالتمزق والشتات ليذيق بعضهم بأس بعض ويكون مآلهم الخزي في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
(1) سورة البقرة آية (85)
(2) سورة البقرة آية (84) 

مواضيع ذات صلة 

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2016

أو أشد قسوة

كما أن للمجتمع حصانة ضد الفساد تمنعه منه، فإن لبعض المجتمعات حصانة ضد التغيير للأفضل ومناعة ضد الإيمان بالحقائق الغيبية الربانية. تورد سورة البقرة في الآيات من (75) إلى (79) فريقين من بني إسرائيل في فترة بعثة النبي محمد (ص) كانت تحظى بتلك المناعة وذلك الصمود أمام حقائق القرآن الكريم، فلا ينفذ إلى ظلام قلوبها المنغمسة في العناد شيء من شعاع نوره ولا يبرق في سماء جهلها بارقة من هدى. فهم إما عالم متهتك أو جاهل متنسك وقد صنع هذا النسيج بتركيبته الفولاذية جدار منع أصم لا يقبل النفاذية للنور أبداً. الأول عالم بالكتاب وحقائقه لكنه يعمد لإخفائها والآخر جاهل به مكتف بالأمنيات والتبعية العمياء واثق كل الثقة "عن جهل" بنجاته وخلاصه يوم القيامة. هذان الصنفان كونا تحالف الشر ضد خير القرآن الآتي من السماء السابعة، فتعاضدا من أجل أن لا تقتحم رسالته القلوب وأن لا يمس شيئاً من معتقداتهم الموروثة وأمانيهم الواهمة.

مشكلة الصنف الثاني " الجاهل " أنه اكتفي بالأمنيات، وهي وعود شيطانية ما أنزل الله بها من سلطان تقضي بنجاة من انتمى إلى الطائفة من العذاب يوم القيامة، سلاحها الجهل مغمورة بأناشيد الغفران وأغنيات النجاة، تأخذ بالظنون ولا تبحث عن حقيقة ماهي عليه من كتاب الله.(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ)(1) 
أما الصنف الأول "العالم" فمشكلته أنه جنّد نفسه للطائفة وليس للحقيقة، يدافع عنها على أساس الغالب لا المغلوب، فلا يسمح لدليل يدينه أو سلطان يثبت بطلان ماهو عليه، يوجه أسلحته من أجل الغلبة على الآخر بدلاً من أن يجندها ضد عناده وتكبره، فيعتقد أنه لا ينبغي له أن يُهزم أمام أحد حتى لو كان هذا الأحد هو منزّل الكتاب، فلا بأس بالدفاع عن الطائفة وعن الحزب حتى لو كان على حساب النص الرباني الوارد في التوراة التي يؤمن بها أساساً.  (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(2)

أما الآية الشريفة (75) من سورة البقرة (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) في نفس مقطع الآيات فإنها إذ تعارض المؤمنين على رغبتهم وطمعهم أن يؤمن هؤلاء بالرسالة فهي تعارض أن يكون تعاطيهم مع الحقيقة بالسماع والتحريف هو سلوك إيمان، فالإيمان موضوعي مبني على العلم والمعرفة، لا انحيازي ولا تحزبي يأخذ بالحقائق ويعمل بها على أساس تقييم ما قيل لا النظر إلى من قال. في حين أن ما عمد إليه فريق العلماء منهم  - وإن تظاهروا مرغمين بالإيمان بالرسالة في بداية الأمر - هو عمل دؤوب على إضعاف ما جاء به النبي محمد (ص) وتزييف الحقائق الواردة في نصوص التوراة من أجل أن لا يقوى موقف النبي وحتى لا تتأكد حقيقة أنه مصدق لما معهم وأنه متمم لنور الرسالات  التي سبقته، فكتموا حقائق التوراة، وحرّفوا بعض كلماته وكتبوا التوراة بأيديهم محرفةً خلافاً لما جاءت به وقدموها للمؤمنين حتى تكون مصدر شك وإضعاف لرسالة  النبي، في الوقت الذي كان لزاماً عليهم أن يشهدوا بصدق دعوته كونهم أهل كتاب وأهل توراة

كلا الصنفين من بني إسرائيل " العالم والجاهل" مغمور في سكرة الأمنيات بالخلاص من النار على أساس "أمل بلا عمل"، (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(3) والقرآن يواجه تلك العقائد بالسؤال: أين هو الدليل؟ أين هو السلطان؟ أين هو العهد الذي عهده الله إليكم بهذه العقيدة؟ فهذه العقيدة باطلة ومفسدة! باطلة فلا أساس لها في التوراة وهم أهل التوراة، ومفسدة للعالم والجاهل، فالعالم يُمنّي نفسه بالنجاة فلا يرى عظم ما يفعله حين يرتكب جريمة الكذب على الله وتحريف التوراة، والجاهل يكتفي بالإنتشاء بها، فتُغنيه عن جهد التفكر والتحقق من الكتاب السماوي الذي يحمله وينتسب إليه ويجهله.
الأمنية والأمل عقيدة باطلة يجابهها القرآن بعقيدة العمل وهي عهد الله لبني البشر بأنه الرب القائم بالقسط (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (*) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(4) وبمقدار ما يلتزم المؤمن بمواثيقه وعهوده مع الله في الامتثال بتلك البنود بمقدار ما يكون حبل نجاته أوثق وأقوى يوم القيامة لا بالآمال والأمنيات

كم يسعى الإنسان في بعض الأحيان بذكاء نحو هلاكه، يدفعه إلى ذلك كبرياؤه وأنفته وحبه للعلو في الأرض، فيجاهد ويستنفذ وسائل المكر والخديعة من أجل أن تبقى مكانته التي رسمتها أوهامه كما هي. فيصنع جدار تحصين له ولمجتمعه ولكن ضد نور الهدى والمعرفة. ليس الجهل وحده سلاح الشياطين، العلم والمعرفة سلاح آخر، فالعلم ليس مقتصراً على القرطاس والذكاء فحسب، إنه بحاجة لحكمة ومعرفة الإنسان لقدر نفسه حتى يتحرك  بالعلم نحو الصلاح والفلاح  بدلاً من أن يتحرك به لإعلاء نفسه وطائفته على حساب الحقائق وعلى حساب نجاته يوم القيامة. أما الجهل المتعمد فيجعل من الإنسان جثة متنفسة، تفستفزها الشياطين بالصوت، فتنعق وراء كل ناعق ولا تستضيء بنور العلم من ظلمات الجهل والضلال.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة آية (78)
(2) سورة البقرة آية (76)
(3) سورة البقرة آية (80)
(4) سورة البقرة آية (81)،(82)

صحيفة الوطن العمانية - ص 21

مواضيع ذات صلة

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

التساؤلات الخمسة في سورة القلم من آية (35) إلى آية (47) - تسجيل صوتي

تطرح سورة القلم في الآيات من (35) إلى (47) خمس تساؤلات حول من يختار له عقيدة من خارج الكتاب المنزل، المقطع الصوتي التالي يتناول هذه التساؤلات.
المدة : 16 د
تقديم : حلمي العلق

وسائط
رابط 1
رابط 2
رابط 3
رابط 4

خاطرة في قصة البقرة

يورد القرآن الكريم في بدايات سورة البقرة مشكلة وقع فيها بنو إسرائيل في تعاملهم مع أوامر الله حين أمرهم نبي الله موسى بذبح بقرة، وحضور هذه الحادثة في بداية الكتاب لها دلالتها وتأثيرها على المؤمن الراغب في فهم آياته وتطبيق أوامره والاستسلام  لها، بحيث ينطلق في الأمر على أنه خير يجب المسارعة فيه، لا على أنه لغز يجب كشف أسراره أو البحث في تفاصيله.

وبغض النظر عن التفاصيل التي تحكيها قصة بقرة بني إسرائيل، إلا أن أحد معانيها يمكن اختزاله في رسم العلاقة العكسية بين سرعة تنفيذ الأمر وبين كثرة الأسئلة الفاحصة للأمر على أنهما على طرفي نقيض، فمن يسارع في التنفيذ يطبق المستوى الأول من الأمر والفهم ولايبحث في طياته عن التفاصيل المنهكة والمعطلة. والعكس صحيح فالبحث عن التفاصيل هو وسيلة هروب عن التنفيذ السريع والمباشر. وقد كان الأمر في قضية بني إسرائيل في بدايته كافياً محققاً للمطلب، ولو نُفذ لكان مقبولاً حتى لو لم تكن البقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، ولكنهم استقبلوا الأمر ببساطته بقولهم " أتتخذنا هزواً" ، وحين تعقد الأمر قالوا " الآن جئت بالحق"، وهكذا فالبساطة لا تعني غير التفاهة بالنسبة لهم أما التعقيد فيعني لهم أنه أمر جاد.
مستقبل الأمر يسارع لأنه عبد يقبل أن يتجاوز الأمر مكانته العقلية، لكن ما يبدو واضحاً في كونها إحدى مشاكل الإنسان هي البحث عن ذاته مع الله، فلا يقبل أن ينفذ حتى يستظهر الأمر بتفاصيل مقنعة تشبع مكانته وتغذي لهفته وراء الأسرار. وما تبينه الآيات أن هذا السعي يقوده إلى التعقيد ويتدرج به من السهولة والسعة إلى العسر والضيق، وينقله من "أي بقرة" إلى بقرة محددة ذات صفات نادرة الوجود يصعب العثور عليها.
وتزداد مشكلة بني إسرائيل وضوحاً حين نرى ردهم "الآن جئت بالحق" فبهذا تتجلى مشكلة الأوامر الربانية الموجهة للإنسان على أساس "هكذا يأمر الله .. وهكذا يريدها الإنسان" فلا يراد للأمر الديني أن يكون عادياً سهلاً ميسراً بسيطاً لأن الدين في نظر الإنسان ملازم للتعقيد وأوامره يجب أن تكون واضحة بكل التفاصيل.
قصة البقرة هذه لا تنفي أن يكون الإنسان واعياً، ولكنها تنفي أن يكون السبيل لذلك الوعي هو كثرة السؤال وتقوده إلى الوسيلة الأمثل لإدراك حقيقة أوامر الله بسرعة التنفيذ لا بكثرة السؤال، بتمثل العبودية التامة لله لا بمساءلة الله جل في علاه والتباطؤ عن التنفيذ "فذبحوها وما كادوا يفعلون".
أخذت سورة البقرة والتي هي أكبر سورة في القرآن الكريم اسمها من هذه الحادثة، والحادثة ليست مجرد قصة إنها منهاج تفكير وسلوك نابع من سوء تقدير الإنسان لنفسه وبالتالي لربه. فهل لهذه الحادثة حضورها عند أهل القرآن الكريم؟ وخصوصاً أن مضامين السورة تخاطب بني إسماعيل ضمناً بعد أن أشارت ووجهت الخطاب مباشرة إلى أحد فرعي الملة من أبناء إبراهيم وأبناء إسحاق ويعقوب حين قالت : " يابني إسرائيل"، فحين يخطئ ذاك الفرع في تعامله مع أوامر الله المباشرة في حادثة البقرة ثم يقسو قلبه يخطيء في تعامله مع الكتاب السماوي بالمثل، وحين يخطئ الأولون فعلى التالين الذين يستلمون الكتاب من بعد ما ضيعه السابقون أن يحذروا من مطبات النفس التي لا عاصم لأحد منها إلا بالتقوى وتمام العبودية لله.
ــــــــــــــــــــــ
صحيفة الوطن العمانية - ص 21
جهينة الإخبارية

مواضيع ذات صلة 
سورة البقرة من آية 67 إلى آية 74