كما أن للمجتمع حصانة ضد الفساد تمنعه
منه، فإن لبعض المجتمعات حصانة ضد التغيير للأفضل ومناعة ضد الإيمان بالحقائق
الغيبية الربانية. تورد سورة البقرة في الآيات من (75) إلى (79) فريقين من بني
إسرائيل في فترة بعثة النبي محمد (ص) كانت تحظى بتلك المناعة وذلك الصمود أمام
حقائق القرآن الكريم، فلا ينفذ إلى ظلام قلوبها المنغمسة في العناد شيء من شعاع
نوره ولا يبرق في سماء جهلها بارقة من هدى. فهم إما عالم متهتك أو جاهل متنسك وقد
صنع هذا النسيج بتركيبته الفولاذية جدار منع أصم لا يقبل النفاذية للنور أبداً.
الأول عالم بالكتاب وحقائقه لكنه يعمد لإخفائها والآخر جاهل به مكتف بالأمنيات
والتبعية العمياء واثق كل الثقة "عن جهل" بنجاته وخلاصه يوم القيامة.
هذان الصنفان كونا تحالف الشر ضد خير القرآن الآتي من السماء السابعة، فتعاضدا من
أجل أن لا تقتحم رسالته القلوب وأن لا يمس شيئاً من معتقداتهم الموروثة وأمانيهم
الواهمة.
مشكلة
الصنف الثاني " الجاهل " أنه اكتفي بالأمنيات، وهي وعود شيطانية ما أنزل
الله بها من سلطان تقضي بنجاة من انتمى إلى الطائفة من العذاب يوم القيامة، سلاحها
الجهل مغمورة بأناشيد الغفران وأغنيات النجاة، تأخذ بالظنون ولا تبحث عن حقيقة
ماهي عليه من كتاب الله.(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ
الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ)(1)
أما
الصنف الأول "العالم" فمشكلته أنه جنّد نفسه للطائفة وليس للحقيقة،
يدافع عنها على أساس الغالب لا المغلوب، فلا يسمح لدليل يدينه أو سلطان يثبت بطلان
ماهو عليه، يوجه أسلحته من أجل الغلبة على الآخر بدلاً من أن يجندها ضد عناده
وتكبره، فيعتقد أنه لا ينبغي له أن يُهزم أمام أحد حتى لو كان هذا الأحد هو منزّل
الكتاب، فلا بأس بالدفاع عن الطائفة وعن الحزب حتى لو كان على حساب النص الرباني
الوارد في التوراة التي يؤمن بها أساساً. (وَإِذَا
لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ
قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ
عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(2)
أما
الآية الشريفة (75) من سورة البقرة (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ
ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) في
نفس مقطع الآيات فإنها إذ تعارض المؤمنين على رغبتهم وطمعهم أن يؤمن هؤلاء
بالرسالة فهي تعارض أن يكون تعاطيهم مع الحقيقة بالسماع والتحريف هو سلوك إيمان،
فالإيمان موضوعي مبني على العلم والمعرفة، لا انحيازي ولا تحزبي يأخذ بالحقائق
ويعمل بها على أساس تقييم ما قيل لا النظر إلى من قال. في حين أن ما عمد إليه فريق
العلماء منهم - وإن
تظاهروا مرغمين بالإيمان بالرسالة في بداية الأمر - هو عمل دؤوب على إضعاف ما جاء
به النبي محمد (ص) وتزييف الحقائق الواردة في نصوص التوراة من أجل أن لا يقوى موقف
النبي وحتى لا تتأكد حقيقة أنه مصدق لما معهم وأنه متمم لنور الرسالات التي
سبقته، فكتموا حقائق التوراة، وحرّفوا بعض كلماته وكتبوا التوراة بأيديهم محرفةً
خلافاً لما جاءت به وقدموها للمؤمنين حتى تكون مصدر شك وإضعاف لرسالة النبي،
في الوقت الذي كان لزاماً عليهم أن يشهدوا بصدق دعوته كونهم أهل كتاب وأهل توراة.
كلا
الصنفين من بني إسرائيل " العالم والجاهل" مغمور في سكرة الأمنيات
بالخلاص من النار على أساس "أمل بلا عمل"، (وَقَالُوا
لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ
عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(3) والقرآن يواجه
تلك العقائد بالسؤال: أين هو الدليل؟ أين هو السلطان؟ أين هو العهد الذي عهده الله
إليكم بهذه العقيدة؟ فهذه العقيدة باطلة ومفسدة! باطلة فلا أساس لها في التوراة
وهم أهل التوراة، ومفسدة للعالم والجاهل، فالعالم يُمنّي نفسه بالنجاة فلا يرى عظم
ما يفعله حين يرتكب جريمة الكذب على الله وتحريف التوراة، والجاهل يكتفي بالإنتشاء
بها، فتُغنيه عن جهد التفكر والتحقق من الكتاب السماوي الذي يحمله وينتسب إليه
ويجهله.
الأمنية
والأمل عقيدة باطلة يجابهها القرآن بعقيدة العمل وهي عهد الله لبني البشر بأنه
الرب القائم بالقسط (بَلَى مَنْ كَسَبَ
سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (*) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(4) وبمقدار ما
يلتزم المؤمن بمواثيقه وعهوده مع الله في الامتثال بتلك البنود بمقدار ما يكون حبل
نجاته أوثق وأقوى يوم القيامة لا بالآمال والأمنيات.
كم
يسعى الإنسان في بعض الأحيان بذكاء نحو هلاكه، يدفعه إلى ذلك كبرياؤه وأنفته وحبه
للعلو في الأرض، فيجاهد ويستنفذ وسائل المكر والخديعة من أجل أن تبقى مكانته التي
رسمتها أوهامه كما هي. فيصنع جدار تحصين له ولمجتمعه ولكن ضد نور الهدى والمعرفة.
ليس الجهل وحده سلاح الشياطين، العلم والمعرفة سلاح آخر، فالعلم ليس مقتصراً على
القرطاس والذكاء فحسب، إنه بحاجة لحكمة ومعرفة الإنسان لقدر نفسه حتى يتحرك
بالعلم نحو الصلاح والفلاح بدلاً من أن يتحرك به لإعلاء نفسه وطائفته
على حساب الحقائق وعلى حساب نجاته يوم القيامة. أما الجهل المتعمد فيجعل من
الإنسان جثة متنفسة، تفستفزها الشياطين بالصوت، فتنعق وراء كل ناعق ولا تستضيء
بنور العلم من ظلمات الجهل والضلال.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة آية (78)
(2) سورة البقرة آية (76)
(3) سورة البقرة آية (80)
مواضيع ذات صلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق