لا ينبغي للمتدبر في آيات القرآن الكريم في موضوع من مواضيعه أن يحدد اتجاه آية من آياته بمعزل عن بقية الآيات التي تحدثت عن نفس الموضوع، فالآية الفرد المجتزأة من موضوع ما قد تكون متشابهة، حمّالة أوجه، لذا يكون لزاماً تحديد اتجاهها بالموضوع الذي وردت فيه، وبالنظر لبقية الآيات التي أحاطت بالموضوع أولاً، ثم إحكام الأمر بآية محكمة أخرى لا تحتمل إلا اتجاهاً واحداً.
وهذا عينه ما قد يواجهنا في آية الإيلاء في سورة البقرة ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[1] ، فقد لا تحسم هذه الآية الكريمة اتجاهها في عقل المتدبر، لولا التريث والتروي والانتظار في الفهم حتى الوصول لآية ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا﴾[2] ، فالآية الأخيرة تخاطب الرجل وتقول له عليك اتخاذ القرار في التسريح أو الإمساك، وإن أمسكت فلا تمسك من أجل الاعتداء إضراراً بالمرأة وانتقاماً منها نتيجة الخلافات التي نشأت بينكما، الأمر الذي يشير وبكل وضوح إلى وجود عدة للطلاق تكون فيها المرأة في بيت زوجها، إذ لا يمكن للرجل أن يمسك بشيء إلا إذا كان ذلك الشيء بين يديه، ولا يمكن له أن يسرح أحداَ ما لم يكن في حوزته، فها هنا عدة معتبرة تؤكد فيها هذه الآية أن القرار للرجل في اتخاذ الإجراء المناسب، وبهذا فإن هذه الآية تجعل من آية «الإيلاء» «للذين يؤلون من نسائهم» جزءاً لا يتجزأ عن موضوع الطلاق، فهي التي حددت فترته وهي الفترة التي تكون فيها المرأة في بيت زوجها، الأمر الذي يمكننا أن نقول للرجل حين بلوغ الأجل أمسك بمعروف أو سرح بمعروف. ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «*» وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [3] .
في المقابل فإن آية «228» من سورة البقرة والتي أشارت إلى عدة المطلقات لا تحتمل أبداً وجود المرأة في بيت زوجها، بل إن كلمات الآية وأجواءها تؤكد وجود المرأة بعيداً عن الزوج ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[4] ، والكلمة المفصلية في هذه الآية هي ﴿وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا﴾ ولا يسعنا بهذه التركيبة من الألفاظ إلا أن نقول إن المرأة ليست في حوزة زوجها وأن الرجل ليس لديه قدرة الإمساك بها، بل إن كلمة «أحق» توحي بالمقارنة بين الزوج الطليق وبين أي أحد آخر قد يتقدم المرأة نفسها للزواج، فالمرأة مطلقة وفي بيت أهلها، وقد يكون هذا الآخر زوجاً جديداً يدخل في حياتها، وبهذا يمكن للمقارنة أن تعقد ونقول بأن هذا البعل وهو أب للجنين الذي تحمله المرأة في رحمها وهو أحق من غيره في ردها إليه، والرد هو عودتها إلى عش الزوجية، وإلى زوجها الذي من المفترض أن تنجب له طفلاً، ومن حق هذا الطفل أن ينعم بحياة هانئة في ظل والديه. أضف إلى هذه الكلمة كلمة أخرى اشتملت عليها هذه الآية وهي ﴿ولا يحل لهن أن يكتمن﴾ وفيها مؤشر إلى غياب الزوج كلياً عن أحوال طليقته فلا يعلم عن التغيرات التي طرأت عليها بسبب الحمل وذاك لأنها في مكان آخر غير مسكنه.
إذاً بتأمل بسيط يمكننا أن نستشعر الأجواء التي تتحدث عنها آية «228» من سورة البقرة ﴿والمطلقات يتربصن﴾ في أن الطليقة تتربص بنفسها ثلاثة قروء خارج منزل زوجها، وهذا يعني أننا أمام عدة أخرى غير العدة الأولى التي ذكرتها آية «231» آية ﴿فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف﴾ والتي خاطبت فيها الرجل والتي وجدنا فيها أنها تنسجم مع آية الإيلاء ﴿للذين يؤلون من نسائهم﴾.
إننا حين نضع أمام أفهامنا عدتين مختلفتين في هذه الآيات الكريمة نجد أن هذا المعنى يتجلى أكثر في آيات أخرى كآية «232» من نفس السورة والتي تقول ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [5] ، وحسب هذه الآية فإن القادر على إعضال المرأة من أن تنكح زوجها هم أهل الزوجة المطلقة، والآية تحذرهم من إعضال المطلقة التي رغبت في العودة إلى زوجها، وأن لا يكونوا حائلاً ومانعاً أمام هذه العودة، وشاهدنا في هذه الآية هو أنه لا يمكن لأهل الزوجة إعضال هذه الطليقة إلا إذا كانت لديهم وفي حوزتهم وخارج حوزة الرجل، وهذا ينسجم تمام الانسجام مع آية ﴿والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء﴾.
خلاصة القول إن آيات الطلاق في سورة البقرة من آية «226» إلى آية «232» تتحدث عن عدتين وليس عن عدة واحدة، العدة الأولى يمكننا أن نسميها عدة الإيلاء، أو عدة تربص الرجل والتي تكون فيها المرأة في بيت زوجها، يقرر الرجل بعد انقضائها في أن يمسك المرأة أو أن يسرحها وإن أمسك فلا تحتسب عليه طلقة والله غفور رحيم، وعدة أخرى يمكن أن نسميها عدة ﴿الثلاث قروء﴾ والتي تكون فيها المرأة قد خرجت من بيت زوجها وطُلّقت منه بشكل فعلي، وفيها تتربص المرأة في بيت أهلها وإن تراضت مع زوجها بالعودة لعش الزوجية فإن ذلك يتم بنكاح جديد بعد انقضاء أجل عدتها، مما يعني أن خروجها هذا قد احتسب طلقة.
لفهم أي موضوع من مواضيع القرآن الكريم وخصوصاً الموضوعات المتشعبة علينا أن نبدأ في فهم الهيكل العام للحكم قبل النظر إلى التفاصيل، وبعد أن نبني في أذهاننا التصور الصحيح عن ذلك الحكم يمكننا أن نضيف بقية التفاصيل لرؤيته بشكل كامل ودقيق، لكل بناء حجر أساس يبدأ منه، وإذا كان للطلاق حجر أساس وبداية فإن بدايته وحجره الأساس هو «الإيلاء».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
هوامش:
[1] سورة البقرة آية «226»
[2] سورة البقرة آية «230»
[3] سورة البقرة «226»، «227».
[4] سورة البقرة «228»
[5] سورة البقرة «232»3
نشر في :
جهينة الإخبارية
[2] سورة البقرة آية «230»
[3] سورة البقرة «226»، «227».
[4] سورة البقرة «228»
[5] سورة البقرة «232»3
نشر في :
جهينة الإخبارية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق