شروحات الفيديو
الجزء الأول:
الجزء الثاني :
الجزء الثالث :
الدراسة
( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)) سورة المائدة
أولًا : الوقوف عند كلمات العبارة
1- لكل : "اللام" تعني لهم، "كل" تعني شمول جميع المعنيين بالخطاب
2- جعلنا: الجعل في هذا السياق وضع الشيء في مكانة واعتبار معين بمشيئة الله.
3- منكم : هم المعنيون المخصصون بالخطاب.
4- شرعة : شرع، شرعة ، مثل خلف خلفة في قوله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً (62)) سورة الفرقان، النهار خلف الليل أي جاء بعده ، فالنهار خلفةً لـ الليل، والليل خلفة للنهار. بالمثل يمكن أن نقول: أن الله سبحانه وتعالى شرع الدين للناس، فالدين شرعة لهم. وقد تبيّن من دراسة كلمة "شرع" أن الشيء المشروع هو ممكن الوصول، ومتاح وفي متناول الجميع، وتوجد الإمكانية لأي أحد أن يصل لهذا الشيء، فلا يحتجب عن أحد ولا يمنع عنه أحد. والدين شرعة للناس في الكتب المنزلة، يمكن لأي انسان الوصول إليه.
4- شرعة : شرع، شرعة ، مثل خلف خلفة في قوله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً (62)) سورة الفرقان، النهار خلف الليل أي جاء بعده ، فالنهار خلفةً لـ الليل، والليل خلفة للنهار. بالمثل يمكن أن نقول: أن الله سبحانه وتعالى شرع الدين للناس، فالدين شرعة لهم. وقد تبيّن من دراسة كلمة "شرع" أن الشيء المشروع هو ممكن الوصول، ومتاح وفي متناول الجميع، وتوجد الإمكانية لأي أحد أن يصل لهذا الشيء، فلا يحتجب عن أحد ولا يمنع عنه أحد. والدين شرعة للناس في الكتب المنزلة، يمكن لأي انسان الوصول إليه.
5- ومنهاجاً : النهج هو وسيلة توصل إلى غاية يريدها الإنسان.
6- (لكل جعلنا)
العبارة القرآنية الشريفة ( لكل جعلنا ) وردت في القرآن الكريم مرتين، الأولى في سورة النساء والثانية في سورة المائدة والتي هي مدار البحث، في سورة النساء يقول الله سبحانه وتعالى :
( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33))
وقوله تعالى (لكل جعلنا) أي لكل من يحتاج إلى مولى يتولى أمره جعل الله له ذلك، فالله جعل الحياة على هذا النهج وهذه السنة، المولى هو المجعول للكل من المعنيين بالخطاب في الآية.
أضيفت لهذه العبارة كلمة ( منكم ) في الآية الثانية التي هي في سورة المائدة مدار البحث، لتصبح (لكل جعلنا منكم) وفي هذا إشارة إلى تخصيص الجعل إلى من هم معنيون بالحديث في سياق الآيات.
حسب السياق فالمعنيون هم الطوائف التي تكونت بعدها الأمم الثلاث في الديانات الإبراهمية، الأولى هي اليهودية التي كان يجب أن تحكم بالتوراة، والثانية هي المسيحية التي كان يجب أن تحكم بالإنجيل، والثالثة هي الطائفة التي تبعت النبي محمد (ص) والتي تحكم بالقرآن الكريم.
ثانيًا: تأويل العبارة
2- لكلِ ( أمة ) جعلنا من ( الأمم الثلاث)، ( دينًا هو ) شرعة ومنهاجا.
إذا كان التقدير في الفراغ الأول هو للأمة، فيمكن أن يؤخذ المعنى باتجاهين أيضًا:
الاتجاه الأول : أن الله هو الذي حكم بهذا الاختلاف بأن أنزل أحكام الإنجيل مختلفة عن التوراة، والقرآن مختلف عنهما، فأصبحت كل أمة لها دينها المشروع لها والمختلف عن الآخر بسبب اختلاف التنزيل، فيكون تأويل الجعل أنه تشريع منصوص من عند الله. لكن هذا الفهم يناقض السياق في:
أ- يناقض ما بدأت به الآية الحديث بقولها (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب)، حيث أعطى القرآن الذي أنزله على نبيه مسمى الكتاب، وأعطى التوارة والإنجيل اللذان هما من قبله مسمى الكتاب أيضًا، فكيف يكون القرآن مصدقٌ لما بين يديه وهو يحمل أحكامًا مغايرة عن أحكام الكتب التي سبقته؟
ب- ثم إذا كانت هذه الكتب لا تشترك في أحكام وعقائد واحدة، فلم تختم الآية بقولها ( إِلى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)؟ لم هذه المحاسبة على هذا الاختلاف، والأمم في الأساس لا تتشارك في حكم؟ لا داعي أصلًا للجدال أو الاختلاف، فأصل دعوى الاختلاف باطلة، دعوى الاختلاف تكون قائمة حين نكون مشتركون في ذات المصدر، أما إذا اختلف المصدر فلا وجود لدعوى الاختلاف أصلاً، ولا داعي للمحاسبة يوم القيامة، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي حكم بهذا الاختلاف.
ج- أضف إلى ذلك أن الآية التالية تحذر النبي محمد (ص) من أن يتبع أهواءهم، فهل يصح أن نصف ما أنزل الله عليهم من أحكام وشرائع بأنها أهواء؟! فالأولى أن يمنع النبي من اتباع أحكامهم فيقول لك شرعتك ولهم شرعتهم. وقد تأخرت هذه العبارة عن العبارة المعنية بالدراسة بالقول : ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) فهل يستقيم المعنى في أن الذي شرعه الله لهم هو أهواء؟!
ثم هذا ما أكدته الآية التالية لهذه الآية الشريفة:
( وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50))
د - وهل يصح أن يكونوا متبعين لشرع الله في كتابه التوراة أو الإنجيل، ثم تقول للنبي : فإن تولوا عنك وعن الشرع الذي أنزل إليك فاعلم أنما يريد الله أن يصبيهم ببعض ذنوبهم، فهل إقامة التوراة ذنب؟ أو أن إقامة الإنجيل ذنب؟ بل إن الآية تؤكد أنهم فاسقون! فاسقون عن ماذا؟ عن حكم الله، أي حكم؟ الحكم الذي أنزله الله عليهم في كتبهم. وأنهم يبتغون حكم الجاهلية ولا يبتغون حكم الله، ناظرين بعين الاعتبار أن الآية السابقة أمرت أهل الإنجيل بإقامة الإنجيل، إذ لازالت أحكام الإنجيل قائمة حتى بعد نزول القرآن، ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (47)) ، كما أن الله سبحانه وتعالى وصف الأحكام التي نزلت في التوراة بأنها هدى ونور كما في الآية السابقة : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى ) الآية (44)
هـ - الآية (43) تؤكد أن حكم التوراة مطابق لحكم القرآن ولا اختلاف بينهما : ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43))، الآية تقول للنبي سواء أنهم حكموا عندك (والنبي يحكم بالقرآن) ، أو حكموا بالتوراة فالحكم واحد.
و- ليس من المنطق أن ينزل الله عدة أديان، المنطق أن لله دين واحد، وإن اختلفت اللغات وينزل على جميع الطوائف حتى يكون حجة على الجميع وهذا ما تؤكده كثير من الآيات في القرآن الكريم قد لا يتسع المقام لذكرها.
لذا فإن هذا الاتجاه في فهم هذه العبارة غير متقبل لأنه لا ينسجم مع المنطق ولا مع السياق القرآني التي وردت فيه الآية ولا بالرجوع لبقية مفاهمي القرآن الكريم، وعليه نتجه للاتجاه الثاني.
الاتجاه الثاني : أن الله سبحانه وتعالى لم ينزّل كتب مختلفة في أحكامها ولكنه سبحانه وتعالى جعل هذه الشرائع، ليكون تأويل الجعل هنا هو وضعها باعتبار أنها شرائع في واقع الناس، وهذا تم بإذن منه سبحانه لا بحكم منه، فأذن أن تخالف اليهودية دينها المكتوب في التوراة ويكون ما وضعوه من دين شرعة للناس، وبأذن منه أيضاً أن تخالف المسيحية كتابها المنزل ويكون ما ابتدعته من دين شرعة ومنهاجًا لمن أراد أن يأخذ به، مخالفين بذلك الأصل وهو كتاب الله المنزل عليهم.
تأويل ( الجعل ) من لدن الله
الجعل في هذه العبارة الشريفة ليس حكمًا من عند الله بل هو مشيئة بالإذن منه أن تكون الديانتين اليهودية والنصرانية اللتان هما مبتدعتان أصلاً، أن تكونا بمثابة الشرعة والمنهاج للناس، وما يؤكد أنها مشيئة إذن منه هو تممة العبارة.
العبارة الأولى هي ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) والعبارة الثانية هي ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، فالذي يقابل الجعل الرباني في العبارة الأولى هو المشيئة في العبارة الثانية، فنفهم العبارتين بالشكل التالي: أن الله (جعل ) كذا (ولو شاء) لفعل خلاف ذلك.
وهذا ما يمكن أن نراه في الآية التالية :
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112))
فالجعل في هذه الآية هو جعل مشيئة ، وليس جعل حكم، فهو سبحانه من أذن بمشيئته أن يكون هناك أعداء للنبوة، لكنه لم يحكم بذلك، وتتمة الآية تؤكد هذه المشيئة بقوله تعالى ( ولو شاء ربك ما فعلوه)، أي أذن لهم أن يفعلوه بمشيئته وعلمه وحكمته سبحانه وتعالى.
الحكمة من جعل الاختلاف
بينت الآية الحكمة في إذن الله بوقوع هذا الاختلاف
(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48))،
هو اختبار المؤمن في اختياره، فسبيل الهدى الذي في كتابه المنزل القرآن الكريم، هو شامل لكل الهدى الموجود في بقية الكتب (مهيمن عليها)، وعلى المؤمن أن يختار من متعدد، إما أن يحكم بكتب الله السماوية، أو أن يحكم بما حكم به اليهود أو النصارى الذي هو خارج عن حكم الله،وقد إذن الله أن يعمل المنحرفون بكامل حريتهم وليختار الإنسان بعدها طريق الصواب، ولهذا يخاطب الله المؤمنين بقوله ( فاستبقوا الخيرات) سابقوا في تطبيق كتاب ربكم، أما حساب المنحرفين عن كتبه السماوية فهو في الآخرة، هناك ينبيء الله كل أمة بما فعلت وما ارتكبته من جريمة في حق كلام الله.
فهم الآية حسب التأويل
أضيفت لهذه العبارة كلمة ( منكم ) في الآية الثانية التي هي في سورة المائدة مدار البحث، لتصبح (لكل جعلنا منكم) وفي هذا إشارة إلى تخصيص الجعل إلى من هم معنيون بالحديث في سياق الآيات.
حسب السياق فالمعنيون هم الطوائف التي تكونت بعدها الأمم الثلاث في الديانات الإبراهمية، الأولى هي اليهودية التي كان يجب أن تحكم بالتوراة، والثانية هي المسيحية التي كان يجب أن تحكم بالإنجيل، والثالثة هي الطائفة التي تبعت النبي محمد (ص) والتي تحكم بالقرآن الكريم.
ثانيًا: تأويل العبارة
العبارة تأوّل بوضع المقدر المحذوف فيها، يوجد لهذه العبارة تأويلان :
1- لكلِ ( رسول ) جعلنا من ( الأمم الثلاث)، ( دينًا هو ) شرعة ومنهاجا.
إذا وضعنا الرسول في الفراغ الأول، يتحدد معنى الفراغ الثالث، فيصبح معنى الدين أنه دين مختلف مغاير عن الذي هو موجود في الأمة الأخرى، والله هو الذي شرعه لهم كدين مختلف، لأن الذي جاء به رسول من عند الله، له أحكامه الخاصة المختلفة عن بقية الرسل.
بنظرة إلى الآية، نجد أن ما بعد هذه العبارة كلمة الأمة: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة)، مما يرجح أن كلمة الأمة كانت موجودة ضمناً في العبارة السابقة، فيمكننا أن نقدر العبارتين معًا : ( لكل أمة جعلنا من الأمم الثلاث دينًا هو شرعة ومنهاجاً لهم ، ولو شاء لجعلكم أمة واحدة)
والمرجح هنا أن أن تحل كلمة (الأمة) كمقدر محذوف في الفراغ الأول بدلًا من كلمة (الرسول). ليكون الحديث عن اختلاف أمم وليس اختلاف رسل، وفارق بين الإثنين، فاختلاف الأمم ليس بالضرورة أن يكون ناتج عن اختلاف الرسل، ولكن قد يكون ناتج من أفعال الأمم نفسها. ويكون تقدير القول هو ( لقد اختلفت أممكم الثلاث في شرائعها ومنهاجها، ولو شاء الله لجعلكم بشرع واحد ونهج واحد). وهذا ما يرجح التأويل الثاني وهو:
إذا كان التقدير في الفراغ الأول هو للأمة، فيمكن أن يؤخذ المعنى باتجاهين أيضًا:
الاتجاه الأول : أن الله هو الذي حكم بهذا الاختلاف بأن أنزل أحكام الإنجيل مختلفة عن التوراة، والقرآن مختلف عنهما، فأصبحت كل أمة لها دينها المشروع لها والمختلف عن الآخر بسبب اختلاف التنزيل، فيكون تأويل الجعل أنه تشريع منصوص من عند الله. لكن هذا الفهم يناقض السياق في:
أ- يناقض ما بدأت به الآية الحديث بقولها (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب)، حيث أعطى القرآن الذي أنزله على نبيه مسمى الكتاب، وأعطى التوارة والإنجيل اللذان هما من قبله مسمى الكتاب أيضًا، فكيف يكون القرآن مصدقٌ لما بين يديه وهو يحمل أحكامًا مغايرة عن أحكام الكتب التي سبقته؟
ب- ثم إذا كانت هذه الكتب لا تشترك في أحكام وعقائد واحدة، فلم تختم الآية بقولها ( إِلى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)؟ لم هذه المحاسبة على هذا الاختلاف، والأمم في الأساس لا تتشارك في حكم؟ لا داعي أصلًا للجدال أو الاختلاف، فأصل دعوى الاختلاف باطلة، دعوى الاختلاف تكون قائمة حين نكون مشتركون في ذات المصدر، أما إذا اختلف المصدر فلا وجود لدعوى الاختلاف أصلاً، ولا داعي للمحاسبة يوم القيامة، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي حكم بهذا الاختلاف.
ج- أضف إلى ذلك أن الآية التالية تحذر النبي محمد (ص) من أن يتبع أهواءهم، فهل يصح أن نصف ما أنزل الله عليهم من أحكام وشرائع بأنها أهواء؟! فالأولى أن يمنع النبي من اتباع أحكامهم فيقول لك شرعتك ولهم شرعتهم. وقد تأخرت هذه العبارة عن العبارة المعنية بالدراسة بالقول : ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) فهل يستقيم المعنى في أن الذي شرعه الله لهم هو أهواء؟!
ثم هذا ما أكدته الآية التالية لهذه الآية الشريفة:
( وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50))
د - وهل يصح أن يكونوا متبعين لشرع الله في كتابه التوراة أو الإنجيل، ثم تقول للنبي : فإن تولوا عنك وعن الشرع الذي أنزل إليك فاعلم أنما يريد الله أن يصبيهم ببعض ذنوبهم، فهل إقامة التوراة ذنب؟ أو أن إقامة الإنجيل ذنب؟ بل إن الآية تؤكد أنهم فاسقون! فاسقون عن ماذا؟ عن حكم الله، أي حكم؟ الحكم الذي أنزله الله عليهم في كتبهم. وأنهم يبتغون حكم الجاهلية ولا يبتغون حكم الله، ناظرين بعين الاعتبار أن الآية السابقة أمرت أهل الإنجيل بإقامة الإنجيل، إذ لازالت أحكام الإنجيل قائمة حتى بعد نزول القرآن، ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (47)) ، كما أن الله سبحانه وتعالى وصف الأحكام التي نزلت في التوراة بأنها هدى ونور كما في الآية السابقة : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى ) الآية (44)
هـ - الآية (43) تؤكد أن حكم التوراة مطابق لحكم القرآن ولا اختلاف بينهما : ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43))، الآية تقول للنبي سواء أنهم حكموا عندك (والنبي يحكم بالقرآن) ، أو حكموا بالتوراة فالحكم واحد.
و- ليس من المنطق أن ينزل الله عدة أديان، المنطق أن لله دين واحد، وإن اختلفت اللغات وينزل على جميع الطوائف حتى يكون حجة على الجميع وهذا ما تؤكده كثير من الآيات في القرآن الكريم قد لا يتسع المقام لذكرها.
لذا فإن هذا الاتجاه في فهم هذه العبارة غير متقبل لأنه لا ينسجم مع المنطق ولا مع السياق القرآني التي وردت فيه الآية ولا بالرجوع لبقية مفاهمي القرآن الكريم، وعليه نتجه للاتجاه الثاني.
الاتجاه الثاني : أن الله سبحانه وتعالى لم ينزّل كتب مختلفة في أحكامها ولكنه سبحانه وتعالى جعل هذه الشرائع، ليكون تأويل الجعل هنا هو وضعها باعتبار أنها شرائع في واقع الناس، وهذا تم بإذن منه سبحانه لا بحكم منه، فأذن أن تخالف اليهودية دينها المكتوب في التوراة ويكون ما وضعوه من دين شرعة للناس، وبأذن منه أيضاً أن تخالف المسيحية كتابها المنزل ويكون ما ابتدعته من دين شرعة ومنهاجًا لمن أراد أن يأخذ به، مخالفين بذلك الأصل وهو كتاب الله المنزل عليهم.
تأويل ( الجعل ) من لدن الله
الجعل في هذه العبارة الشريفة ليس حكمًا من عند الله بل هو مشيئة بالإذن منه أن تكون الديانتين اليهودية والنصرانية اللتان هما مبتدعتان أصلاً، أن تكونا بمثابة الشرعة والمنهاج للناس، وما يؤكد أنها مشيئة إذن منه هو تممة العبارة.
العبارة الأولى هي ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) والعبارة الثانية هي ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، فالذي يقابل الجعل الرباني في العبارة الأولى هو المشيئة في العبارة الثانية، فنفهم العبارتين بالشكل التالي: أن الله (جعل ) كذا (ولو شاء) لفعل خلاف ذلك.
وهذا ما يمكن أن نراه في الآية التالية :
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112))
فالجعل في هذه الآية هو جعل مشيئة ، وليس جعل حكم، فهو سبحانه من أذن بمشيئته أن يكون هناك أعداء للنبوة، لكنه لم يحكم بذلك، وتتمة الآية تؤكد هذه المشيئة بقوله تعالى ( ولو شاء ربك ما فعلوه)، أي أذن لهم أن يفعلوه بمشيئته وعلمه وحكمته سبحانه وتعالى.
الحكمة من جعل الاختلاف
بينت الآية الحكمة في إذن الله بوقوع هذا الاختلاف
(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48))،
هو اختبار المؤمن في اختياره، فسبيل الهدى الذي في كتابه المنزل القرآن الكريم، هو شامل لكل الهدى الموجود في بقية الكتب (مهيمن عليها)، وعلى المؤمن أن يختار من متعدد، إما أن يحكم بكتب الله السماوية، أو أن يحكم بما حكم به اليهود أو النصارى الذي هو خارج عن حكم الله،وقد إذن الله أن يعمل المنحرفون بكامل حريتهم وليختار الإنسان بعدها طريق الصواب، ولهذا يخاطب الله المؤمنين بقوله ( فاستبقوا الخيرات) سابقوا في تطبيق كتاب ربكم، أما حساب المنحرفين عن كتبه السماوية فهو في الآخرة، هناك ينبيء الله كل أمة بما فعلت وما ارتكبته من جريمة في حق كلام الله.
فهم الآية حسب التأويل
(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)) سورة المائدة ،
أنزل الله سبحانه وتعالى إليك يامحمد (ص) القرآن الكريم وهو كتاب مصدقٌ للكتب السماوية السابقة، ومتطابق معها في الأحكام والشرائع لأنها كلها من رب واحد وعلى ملة واحدة هي ملة إبراهيم، وهذا الكتاب مهيمنًا على تلك الكتب، أي شامل لكل أحكامها وعقائدها ومبيّن لما وقع فيها من خلاف واختلاف، ومبينًا للقصص التي خلفت بعد تلك الكتب، وعن حقيقة عيسى من بعد رفعه.
فاحكم بين أهل الكتاب الذين ادعوا أنهم مؤمنون بك وبما أنزل الله من كتب، والذي هو أصلًا موجود في التوراة والإنجيل والقرآن، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق، لأنهم يدعون أنهم مؤمنون بك لكنهم لا يذعنون لأحكام الكتب السماوية بل يردون أن يحرفوك عنها، فيحاجوك بما ورثوه عن آباءهم، حفاظًا على كياناتهم ومكتسباتهم .
هم يجادلونك على أن هذا الموروث شيء قائم منذ تأسيس ملة إبراهيم ومنذ نزول النبي موسى، أو النبي عيسى، فاحذر من فتنهم، لأن هذه الكيانات التي وجدت في السابق بمشيئتي وستبقى للحاضر بمشيئتي، فتنة للناس حتى يختاروا بين الحق والباطل، فلكل جعلنا شرعة ومنهاجا، أي للحق الذي أنزله الله شرعته في الكتب السماوية، وللباطل الذي ابتدعته هذه الأمم شرعته في كتب أخرى غير الكتاب السماوية، ولو شاء الله لجعلكم تتفقون على الحق جميعًا، لكن مشيئتي أذنت أن تبقى هذه الكيانات، وأن يبقى هذا الاختلاف حتى يختبر الناس فيما آتاهم من كتب سماوية، هل يميلون إليها أو يميلون عنها؟ بسبب تلك الفتن، وبسبب تلك الكيانات، فاستبقوا الخيرات، يامن آمنتم بما أنزل الله، بالتحاكم إليه، وتجنبوا الخلاف الذي لا طائل منه مع هؤلاء، لأنهم لا يرتجون منه إلا فتنة المؤمن بالكتاب، فالمرجع لله هو الذي سيحكم في هذه الإختلافات يوم القيامة.
أنزل الله سبحانه وتعالى إليك يامحمد (ص) القرآن الكريم وهو كتاب مصدقٌ للكتب السماوية السابقة، ومتطابق معها في الأحكام والشرائع لأنها كلها من رب واحد وعلى ملة واحدة هي ملة إبراهيم، وهذا الكتاب مهيمنًا على تلك الكتب، أي شامل لكل أحكامها وعقائدها ومبيّن لما وقع فيها من خلاف واختلاف، ومبينًا للقصص التي خلفت بعد تلك الكتب، وعن حقيقة عيسى من بعد رفعه.
فاحكم بين أهل الكتاب الذين ادعوا أنهم مؤمنون بك وبما أنزل الله من كتب، والذي هو أصلًا موجود في التوراة والإنجيل والقرآن، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق، لأنهم يدعون أنهم مؤمنون بك لكنهم لا يذعنون لأحكام الكتب السماوية بل يردون أن يحرفوك عنها، فيحاجوك بما ورثوه عن آباءهم، حفاظًا على كياناتهم ومكتسباتهم .
هم يجادلونك على أن هذا الموروث شيء قائم منذ تأسيس ملة إبراهيم ومنذ نزول النبي موسى، أو النبي عيسى، فاحذر من فتنهم، لأن هذه الكيانات التي وجدت في السابق بمشيئتي وستبقى للحاضر بمشيئتي، فتنة للناس حتى يختاروا بين الحق والباطل، فلكل جعلنا شرعة ومنهاجا، أي للحق الذي أنزله الله شرعته في الكتب السماوية، وللباطل الذي ابتدعته هذه الأمم شرعته في كتب أخرى غير الكتاب السماوية، ولو شاء الله لجعلكم تتفقون على الحق جميعًا، لكن مشيئتي أذنت أن تبقى هذه الكيانات، وأن يبقى هذا الاختلاف حتى يختبر الناس فيما آتاهم من كتب سماوية، هل يميلون إليها أو يميلون عنها؟ بسبب تلك الفتن، وبسبب تلك الكيانات، فاستبقوا الخيرات، يامن آمنتم بما أنزل الله، بالتحاكم إليه، وتجنبوا الخلاف الذي لا طائل منه مع هؤلاء، لأنهم لا يرتجون منه إلا فتنة المؤمن بالكتاب، فالمرجع لله هو الذي سيحكم في هذه الإختلافات يوم القيامة.
يمكن أن نرى نفس المعنى لهذه الآية الشريفة في الآية التالية :
( لِكُلِّ
أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ
وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ
فَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)) سورة الحج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق