السبت، 22 أبريل 2017

التقوى والإيمان بالغيب

التقوى هى منتهى الايمان، وهي من يوصل الإنسان لدرجة الإسلام التام، فمن أسلم لله فقد اتقى، والله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نتقي حتى نموت على التقوى وذلك هو التسليم لله سبحانه وتعالى. 
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[1] 

التقوى
التقوى والوصول إلى درجة الإسلام التام لله أهم موضوع فى حياة المؤمن، فكيف ينجح المؤمن في التصالح بينه وبين الله؟ وكيف يصل للتقوى؟ يظن المؤمن ان التقوى شئ هين وبسيط ويمكن التهاون فيه على أساس أنه يتقى الله ما استطاع وحسب قدرته على التقوى في المواقف المختلفة، وهذا خطأ كبير! لقد جاء موضوع التقوى المجزأة أو حسب استطاعة المؤمن في موضوع خاص وهو موضوع التعامل مع الاولاد والزوجة،  وهو الموضوع الذي طعن اليهود فيه الدين حين قالوا ليس لنا قدرة على تنفيذه، لانه فوق طاقتنا البشرية: 
(مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) [2] 
 هم الذين قالوا في هذا الموقف لقد سمعنا قولك من قبل، لكننا لم نقدر على تنفيذه، وبالتالي عصينا فراعنا في هذا الأمر والتمس العذر لنا، واسمع أحد غيرنا لم يسمع! ولقد أنذر الله المؤمنين من الوقوع في نفس المشكلة وقال لاتقولوا رعنا ولكن قولوا أمهلنا وأعطنا وقتاً حتى نسمع فيه مرة اخرى لعلنا نستسلم وننفذ أحكامك تماماً كما أمرت 
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[3] 
 علينا أن نعلم أن الله سبحانه عندما كلف الإنسان لم يكلفه فوق طاقته لأنه سبحان لايكلف نفساً الا وسعها فلا عذر للإنسان في عدم الوصول للتقوى وللإسلام الكامل، والتقوى هي أول درجات الإيمان، وما تبقى هو درجه حتى تصل للقمه وللقرب من الله وتكون من المقربين. فهل هناك مفتاح للوصول الى التقوى؟ وهل هناك سبيل لبلوغ درجة المتقين؟ نعم جعل الله لك الله سبيلاً إن اتبعته ستكون لديك القدرة على تقوى الله حق تقاته وهو الإيمان بالغيب.

الإيمان بالغيب 
الإيمان بشيء غائب عن الأنظار هو أمر صعب جداً، فدائماً ما ينساه الإنسان لأن الله غائب عنه، ودائما ما ينسى الإنسان الغائب إلا اذا وجد الاتصال الدائم الذي لاينقطع. فما هو الايمان بالغيب؟ هو الإيمان بالله واليوم الاخر، الله غيب وليس شهاده، والآخره غيب وليست شهادة، فهل الإيمان بالغيب هو سبيل التقوى حقاً؟ نعم لقد نبهنا الله سبحانه وتعالى إلى ذلك فى أول سورة البقرة وفي أول كتابه العزيز:
 ( الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)[4]
وقد بين سبحانه الآيات التالية السبيل للإيمان بالغيب ولخصة في السبل التالية وهي أولاً الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)  
من هنا يمكن أن نفهم أهم شيء في حياة المؤمن يجب عليه أن يعلمه ويعمل من أجله وبكل قوة وهو الوصول للتقوى من خلال هذه السبل البينة الواضحة من كتاب الله، هذا أهم موضوع يجب أن يشغل قلب المؤمن ويصل إليه وإلا هلك.

العقل
يظن كثير من الناس أن الوصول للإيمان بالغيب يكون بالعقل الذى هو فى رأس الإنسان، ذلك الجهاز الذى يدير وظائف الجسد الإرادية واللاإرادية، والحقيقة أن مخ الإنسان ما هو إلى جهاز يعمل على تخزين المواقف التي تربى عليها الإنسان ونشأ فيها، ويعمل على حفظ التركة التي يرثها الإنسان عن آبائه من أعراف وتقاليد و عقائد. عقل الإنسان لا يعمل بحيادية ولا يمكن له أن يميز بين الحق والباطل، فهو يعمل بالخبرة التي اختزنها، وميزانه في الحق هو موروثه عن آباءه، ومعقوله هو ما اعتاد عليه وحسب.

القلب
لقد أودع الله سبحانه وتعالى قدرة التمييز بين الحق والباطل في القلب وليس في العقل، القلب السليم هو صاحب الميزان الصادق والمحايد، القلب هو جهاز التعقل الحقيقي، ونقصد بكلمة "العقل" جهاز الوزن الصحيح ولا نقصد به المخ الذي في رأس الإنسان، 
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[6] 
لقد وضع الله سبحانه وتعالى مرجع صادق فى صدر كل إنسان، يمكنه من خلاله أن يزن به مسائل الدين وعقائده، وهي الفطرة التى خلق الله عليها الإنسان، والإيمان بالغيب ليس أمراً منطقياً ولايعرف بجهاز المخ، ولذلك يلحد الملحدون 
(وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ)[7] 
فإذا سلم الميزان فى صدر الإنسان ولم يفسد بسبب مرض القلب أو موته فسيحظى الإنسان بميزان سليم يعقل به لأنه ذهب إلى الله بقلب سليم. لقد أنزل الله سبحانه وتعالى الكتاب على ميزان فطري سليم، وخير القرآن لن يهبط إلا قلوب سليمة تزن بميزان سليم. لقد انزل الله الكتاب على القلوب، ولا يمكننا أن نتحصل على الإيمان بالغيب "بالمخ" ولا بحسابات فزيائيه، لكنه هدى ورضى من القلب و إحساس تستشعره النفس، يقول الله عن حقيقة الكتاب 
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)[8] 


الإنسان والإيمان بالغيب
 رفض الإنسان الإيمان بالغيب على مر التاريخ، وأول رسالة على ملة ابراهيم كان على يد نبي الله موسى (ع) إلى بني إسرائيل، فارهقوه ارهاقاً شديداً بسبب عدم إيمانهم بالغيب، فكانوا في كل المواقف التي مرت عليهم يعبرون عن رفضهم التام لهذا الإيمان، على الرغم من مرورهم بأكبر آيه وهي فلق البحر، ومرورهم من خلاله لينجوا من فرعون وجنوده. على الرغم من تلك الآية العظيمة إلا أنهم حين مروا على أناس يعبدون أصناماً طلبوا من موسى (ع) أصناماً مثلها. وعلى الرغم من أن نبيهم بين لهم خطأ هذا الطلب إلا أنهم وبعد المرور بعدة تجارب ربانية وآيات بينة، أفصحوا لموسى بمكنون ما يرغبون  فيه حتى يصلوا إلى الإيمان الذي يطلبهم موسى به، فقالوا " أرنا الله جهرة" . لقد كان رفضهم للإيمان بالغيب واضح بين، فما إن غاب موسى حتى صنعوا عجلاً له خوار، وخدعهم السامري قائلاً هذا الهكم وإله موسى، لقد حاولوا تجسيد الإله بسبب رفضهم الإيمان لقوى غيبيه.

الإيمان بالغيب والفتن
قد نرى مؤمناً طائعاً لله فى أحكامه، ومتبع لشرائعه بكل دقة، ولكن عندما يفتنه الله في إيمانه يجد نفسه خارج منظومة الإيمان بالغيب، وإن لم يحصل على نجاة من عند الله بتذكرة ليعود إلى حظيرة الإيمان قد يجد نفسه خارج الإيمان في حظيرة الكفر. الإيمان بالغيب درجات، فدرجة منه هو ما يكون من المؤمن بالاستجابة إلى الأوامر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولكن الدرجة الأعلى والمطلوبة هو الإيمان الغيبي الصامد، ونقصد به الإيمان الذي يصمد أمام المواقف المختلفة في حياة الإنسان، فهل يصمد ذلك الإيمان في مواجهة الموت مثلاً؟ في القرآن الكريم مواقف عدة تبين مدى الضعف الذي يبديه المؤمن في المواقف الحاسمة والمصيرية، ومن تلك المواقف ماكان من بني إسرائيل مع ملكهم طالوت، فهؤلاء المؤمنين الذين طالبوا نبيهم بأن يرسل لهم ملكاً كي يقاتلوا في سبيل الله لم يصمدوا أمام الإمتحانات اللاحقة.
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)[9] 
وبغض النظر عن طبييعة الطلب والفتنة، ولكن علينا أن نتنبه هنا إلى أن هناك طائفة من الذين آمنوا لم يشربوا من النهر إيماناً وتصديقاً بطالوت، لم يشربوا وصاموا عن الشرب من النهر، وكانوا في عداد المؤمنين، وتجاوزا مع طالوت النهر، وكانت اللحظة الحاسمة والأخيرة في مواجهة جالوت، ففتنوا بقلة عددهم واختل إيمانهم بالغيب وقالوا "لاطاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده" ولكن الذين لم يختل إيمانهم بالغيب ثبتوا وواصلوا المسير مع طالوت، وهم الذين وصفتهم الآية " الذين يظنون انهم ملاقو الله كم من فئه قليله غلبت فئه كثيره بإذن الله والله مع الصابرين" ،حينها تذكر الذين تزعزع إيمانهم وطلبوا من الله أن ينجيهم من هذه الفتنه وقالوا " "ربنا افرغ علينا صبرا وثبت اقدمنا وانصرنا على القوم الكافرين".  

أهم هدف
إن كنا نسعى إلى إيمان لا يتزعزع ويثبت حتى نلقى الله به يوم القيامة، فعلينا أن نسعى جاهدين للحصول على الإيمان الحقيقي بالغيب، ذلك الإيمان الذي صادماً في الفتن قوياً أمام أعتى العواصف والزلازل. وإن كان هذا الهدف في أعلى قائمة أهدافنا الإيمانية، يبقى أن نسعى للبحث عن سبيل لتحصيل هذا الإيمان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة آل عمران آية (102)
[2] سورة النساء آية  (46)
[3] سورة البقرة آية  (104)
[4] سورة البقرة آية (1) و (2) 
[5] سورة البقرة آية (3)
[6] سورة الحج آية (46)
[7] سورة الرحمن آية  (7)
[8] سورة فصلت آية  (44)
[9] سورة البقرة آية  (249) 

الأربعاء، 8 مارس 2017

ملة إبراهيم - الحلقة السادسة - لماذا سميت الملة بنبي الله إبراهيم (ع)

كثير من المشاريع والحركات تبدأ بهدف لكنها مع الأيام تنحرف عن الأساس الذي انطلقت منه وتنعطف لمبادئ أخرى. الدين أحد أكثر الموضوعات التي تتعرض لانحراف على مدى التاريخ، حيث يتم استبدال موقعه تبعاً للأهواء والتيارات، ومن هذا المنطلق نبحث عن السبب في تسمية الملة بنبي الله إبراهيم (ع)؟
تقول الآية الشريفة (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (*) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)[1] ، هذه الآيات تقول لأهل الكتاب: يا أهل الكتاب لا تدّعوا أنكم أولى بتمثيل نبي الله إبراهيم والحديث عن ملته، بل إن الأولى بذلك هم الذين اتبعوه وساروا على نهجه، وهذا النبي والذين معه سائرون على خطاه ومتواصلون على نهجه. فما معنى هذا القول؟ وما أبعاد هذا الحوار وهذا النقاش في ظل السؤال «لماذا سميت الملة باسم شخص نبي الله إبراهيم (ع)» ؟
لنبي الله إبراهيم مكانة وأهمية كونه الأصل والمؤسس وأبو الأنبياء، وفي ادعاء بني إسرائيل "الذين هم أبناؤه نسباً" أنهم أتباع له فهذا يُكسبهم المشروعية، ويؤكد على أن ديانتهم على حق وسائرة على النهج الإبراهمي الأصيل. من هنا جاءت التسمية الربانية بنبي الله إبراهيم حتى تكون تلك التسمية نقطة مرجعية تاريخية لأصل الحركة التي ابتدأها، وهذا التأصيل يعمل على قياس انحراف الأجيال المتعاقبة عن نقطة الأصل وعن نقطة الانطلاق، كما يضمن العودة للأصل لتصحيح الحركة في أي زمان.
عندما تقول الآية (إن أولى الناس بإبراهيم) فهي تقول إن الأولى بالحديث عن نبي الله إبراهيم وتمثيله وتجسيد دعوته هم هؤلاء أي النبي والذين معه لأنهم اتبعوا نهجه وليس أنتم. وأصل الحديث في هذه الآيات هو نفي انتماء نبي الله إبراهيم لليهودية والنصرانية (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ)[2] ، أما آية (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)[3] فهي تحاجج كل من هتين الطائفتين حول حقيقة نبي الله إبراهيم باستخدام النقطة المرجعية لتبطل الادعاء القائل بأن الديانة كانت اليهودية أوالنصرانية، فاليهودية كمسمى جاءت بعد إنزال التوراة فكيف ينسب نبي الله إبراهيم لشيء بعده زمانياً، وبالمثل في النصرانية. وبهذه الحجة تتضح أهمية التسمية كونها تمثل نقطة تاريخية مرجعية، وبها يتبين مدى الانحراف عن الأصل، وكذلك تعتبر ضماناً للرجوع لمن أراد أن يصحح الانحراف.
تقول آية أخرى في سورة البقرة (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[4] والآية الشريفة تفرض تسلسلاً تاريخياً في كون نبي الله إبراهيم(ع) هو الأصل وأن من يأتي من بعده يكون تابعاً له، والشيء غير المنطقي هو أن يكون نبي الله إبراهيم تابعاً إلى أحد أبنائه الذي جاء من بعده بعدة قرون.
 الملة باسم نبي الله إبراهيم (ع) ليست مجرد تسمية لا هدف منها، إنها كاشف وضمان، كاشف للكذب والافتراءات لتبطل محاولات خطف الملة والاستحواذ على الأصل، وضمان للرجوع للحقيقة لمن أرادها في كل زمان. إنها تسمية تحدث الاتزان لكل تطرف متوقع عبر القرون حين تتمايز الطوائف وتنقسم الأمم على بعضها البعض بالغلو والعلو، فكل من يأتي من بعد إبراهيم تابع له، فهو المتبوع وليس العكس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة آل عمران الآيات (68) و (69).
[2] سورة آل عمران آية (67).
[3] سورة آل عمران آية (65).
[4] سورة البقرة آية (136).

ذات صلة 

الجمعة، 24 فبراير 2017

ملة إبراهيم - الحلقة الخامسة - ملة إبراهيم والسفاهة؟

تصف آية (130) من سورة البقرة من يرغب عن ملة إبراهيم بالسفه، تقول الآية الشريفة (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ). فماهي علاقة السفاهة بالرغبة عن الملة؟
قبل أن نجيب على هذا التساؤل نحاول أن نتعرف على السفاهة بصورة عامة من آية كتابة الدَّين الآجل، تقول الآية في أحد مقاطعها (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ)[1] ، فالسفيه حسب الآية غير قادر على إدارة شؤون حياته، معزول عن وظائفه الرئيسية في الحياة قد لا يستطيع أن يملل الدَّين الذي عليه، لا يقرأ لأنه لايستطيع القراءة ولا يستوعب الأحداث حوله، وبسبب ذلك الضعف فهو لا يتمكن من إدارة شؤون حياته، ويحتاج إلى أحد يتولاه في إدارتها ويتحدث بالنيابة عنه.
بالمثل فإن السفاهة في الدين هي أن يكون الشخص مغيّباً عن الواقع، معزولاً عن وظائفه الرئيسية، لا يستطيع التمييز ولا القرار، غير قادر على إدارة شؤونه الدينية، ولا على الكلام في الدين، لأنه لا يرى الحقيقة وماذا يتوجب عليه. وهو بحاجة لأن يولي أمره لأحد آخر، يقرأ، يميّز، يتحدث، ويقرر بالإنابة عنه ويملي عليه واجباته وماذا يتوجب عليه أن يفعل من أجل أن يدخل الجنة.
تقول آية تبديل القبلة (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[2]. هذه الآية تتحدث عن الفترة التي تبدلت فيها القبلة، كان التبديل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى أولاً ثم أعيدت القبلة إلى المسجد الحرام، وكانت تلك الفتنة من أجل معرفة من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وهذه العودة هي عودة للحق الذي أراده الله، وهو مانصت عليه الكتب السماوية السابقة بدليل قوله تعالى (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)[3]. كيف علم الذين أوتوا الكتاب هذه الحقيقة؟ لقد علموها من الكتاب السماوي الذي بين أيديهم، ولكن كثير من أهل الكتاب بدّلوا هذه الحقيقة وافتعلوا جهات أخرى غير جهة المسجد الحرام تبعاً لأهوائهم، فاتبعهم الناس على عمى.إذاً الحقيقة بيّنة ساطعة في الكتاب، ولكن بعض علماء أهل الكتاب كتموا الحق، لذا فإن الأميين من الناس اعتمدوا ما اعتمده أهل العلم منهم وظنوا أنها الحقيقة. من هنا جاء التعبير "سيقول السفهاء" فالسفهاء من الناس يظنون أن هذه القبلة ليست القبلة الحقيقية التي نص عليها الله سبحانه وتعالى، وأنها ليست القبلة الحقة وذلك لأنهم اتبعوا غير الكتاب دون علم أو اطلاع بما أمر الله ، على الرغم من أن أوامره بيّنة واضحة في كتبه السماوية، فما الداعي للانحراف عنها وهي أمامهم؟
توضح آيات تبديل القبلة معنى السفاهة في مواضيع الدين، وعليه يمكننا أن نفهم علاقة السفاهة بالرغبة عن ملة إبراهيم (ع). في آية (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ )[4]. نلاحظ أولاً أن المخاطب في الآية هو شخص يدّعي أنه تابع لملة إبراهيم وليس خارجاً عنها، ويمكن أن يتضح ذلك جلياً من خلال السياق فالآيات تخاطب أهل الكتاب الذين يتبعون ملة إبراهيم بصورة شكلية فقط.  ثانياً عبارة "سفه نفسه" لا تعني أن الشخص سفيه في الأصل، ولكنها تعني أنه أَنزل نفسه منزلة السفيه ورضي بذلك. ثالثاً العبارة "يرغب عن ملة إبراهيم" تتحقق حين يرغب الإنسان إلى شيء آخر، والرغبة عن ملة إبراهيم هي رغبة عن قراءة  البينات في الكتاب ورغبة في تصديق الكذب والزور والرضى بنصوص أخرى غير النص الأصلي والأساسي في الدين.
 التعبير "سفه نفسه" يلقي باللوم على متبع الملة لعدم تحمله مسؤولية نفسه حين رغب عنها، لأنه قادر على قراءة النص وفهم البينات والاستسلام لها، لكنه احتجب عن الحقائق وأنزل نفسه منزلة السفه وأسلم أمره لمن يتحدث باسم ملة إبراهيم ولكنها ملة مزيفة مخلوطة بالكذب والأهواء. من هنا كان الرشد قاعدة أساس يجب أن يتمتع بها المؤمن بالملة حتى يكون من اتباعها، وحتى يصنع من رشده سداً منيعاً أمام هجمات اختطاف العقل، وعمليات الاحتيال لسلب الإرادة في الدين وتعطيل الإسلام للحقائق الربانية في كتبه السماوية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة البقرة آية(282)

[2] سورة البقرة آية (142)
[3] سورة البقرة آية (144)

[4] سورة البقرة آية (130)

السبت، 18 فبراير 2017

ملة إبراهيم - الحلقة الرابعة - أين نجد الملة؟

يأمرنا القرآن الكريم باتباع ملة إبراهيم(ع)، ولكن أين نجد هذه الملة؟ ملة إبراهيم موجودة  في الكتب السماوية في القرآن الكريم وفي التوراة، تقول الآية الشريفة (161) من سورة الأنعام (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) أي أن الله سبحانه وتعالى هدى الناس جميعاً وأوصل لهم ملة إبراهيم الخليل بإنزال القرآن الكريم. وقد جاءت هذه الآية في أعقاب الحديث عن الوصايا العشر التي تمثل القيم الأساسية للملة في الآيات (151) إلى ( 153) من نفس سورة الأنعام الشريفة.

ملة إبراهيم تشتمل على العقائد الحقة والشرائع الربانية التي شرعها للناس، ونجد في سورة آل عمران في الآيات من (93) إلى (95) في معرض حديثها عن ما حرمه بني إسرائيل على أنفسهم ولم يحرمه الله سبحانه وتعالى، نجد ذكر ملة إبراهيم :
( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (*) فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (*) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ)
الآيات تأمر النبي محمد (ص) أن يوجه الخطاب إلى اليهود في موضوع حرمة الطعام ليأتوا بالتوراة ويتلوها ليتم الإستشهاد من التوراة على صدق دعواهم في حرمة ما يدّعون حرمته من الطعام، فما تقوله التوراة هو الصدق، وخلاف ذلك هو الكذب كما تقول الآية التالية لها "فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون". ثم تأمره الآية بأن يقول لهم "صدق الله" فيما أوحاه إليه في تحديد الحرمة من الطعام، ثم يقول لهم "اتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين" فاتباع التوراة هو اتباع لملة إبراهيم، وابتداع محرمات لم يذكرها الله سبحانه وتعالى هو خروج عن الملة.

من هذا نفهم أنهم يدّعون اتباع ملة إبراهيم هذا أولاً، ثانياً إن اتباع الكتاب السماوي المنزل من عند الله هو الاتباع الحقيقي لملة إبراهيم. فإذا كنا نسأل : أين هي  ملة إبراهيم ؟ فالإجابة هي: أن ملة إبراهيم محفوظة في الكتاب السماوي، وأن تعاليم الكتاب السماوي هي نفسها تعاليم ملة إبراهيم الخليل.و  من أجل أن نتبع الملة علينا أن نعود للكتاب برشد وليس بسفه، أي أن نكون قادرين على تمييز الصواب من الخطأ بأنفسنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقال في الوطن العمانية ص 21
مواضيع ذات صلة 

الثلاثاء، 13 ديسمبر 2016

هل عندكم سلطان بهذا؟

كتاب الله رسالة سماوية نقية من شوائب الإنسان وتدخلاته وبه سنحاسب يوم القيامة، ولا ينبغي للمؤمن أن تنحرف بوصلته عن هذا الثقل الأكبر ، هكذا تشير كثير من الآيات الشريفة وهذا هو المنطق البسيط الذي يفهمه العقل المتحرر. وقد تناول القرآن في غير مرة ضرورة تحصين  الفرد والمجتمع بالفكر الممانع لكل دخيل على الأصل بالسؤال تارة والتمحيص تارات أخرى، ويضرب لذلك الأمثال في سور شتى وقصص مختلفة، منها ما ورد في سورة الصافات حين عالجت الآيات ما آل إليه الوضع الديني في قريش من عبادة الملائكة وتسميتهم بأسماء الأنثى. فقد استنكرت الآيات ذلك المعتقد وعالجته بنقاش هادئ بالارتكاز على ركيزتين: هما السؤال العقلي المنطقي المثير الممحص والفاحص أولاً، والسؤال عن مصدر العقيدة ثانياً.
في الجانب العقلي تأمر سورة الصافات في آية (149) المصطفى (ص) أن يرفع الفتوى إلى أصحاب الاختصاص المدعين لهذه العقيدة ليتأملها أولو الألباب (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ (*) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ (*) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (*) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (*) أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (*) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(1) ؟ لأن هذه التسؤالات تعيد للإنسان توازنه بعد أن أفقده إياه التيار الجارف، ويعصف بالتراب الذي غطى العقل بطبقات من المقولات الزائفة، فهم بهذه الأحكام قد أنزلوا قدر الله سبحانه ونسبوا إليه ما لا يليق من التمييز بين الجنسين الذكر والأنثى وكلاهما مخلوق، ونسبوا إليه ما يكرهون وهو الأنثى "فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون"؟ وهذه التساؤلات تحفز العقل بعد أن أصيب بالكسل أو العطب الكامل تأثراً بالهوى والموروث ومقولات أصحاب الأسماء العالية في المجتمع القرشي آنذاك، والأحكام الباطلة تعمل على تغيير الموازين وتعبث في المقادير، ومن شأن الأسئلة المنطقية العاصفة للعاطفة أن تعيد الإنسان لرشده وإلى جادة الصواب، والعقل يمكنه استشعار الخلل إن أطلقت النفس حريته وحفزه القلب السليم للعمل بموضوعية.
أما الركيزة الثانية والمهمة فهو السؤال عن مصدر الحكم؟ حيث تقول الآية ( أَفَلا تَذَكَّرُونَ (*) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (*) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (157))(2) التذكر في الدين هو الرجوع للذكر وهو الكتاب السماوي بإلإمتثال لأوامره الواردة فيه، وكتاب الله العزيز مصحح للانحراف ومانع للانجراف عن جادة القيم الأساسية التي أنزلها الله سبحانه وتعالى. الآية الشريفة تعبّر عن أحكام الكتاب السماوي بالسلطان المبين، والسلطان هو الذي يملك السلطة على الآخرين فلا يملكون الرد أو المخالفة، والقرآن يفرض هذه النظرة لكلام الله،  أي أن كلام الله يجب أن يكون سلطاناً على من يسمعه ومن يصل إليه ، وما عدا ذلك فلا يملك السلطة. و القول يأخذ مكانته وسلطته من مكانة وسلطة قائله، والله عز وجل هو الخالق المالك ويحكم في الدين على مخلوقاته، وإذا حكم فلا مبدّل ولا معقب لحكمه. من هنا فإن الآية تتساءل عن الوثيقة الرسمية التي اُعتمدت في أخذ هذه العقيدة وهذا الحكم، وتكمل تساؤلها بالقول فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين لتعطي إجابة دقيقة داخل التساؤل نفسه، وهو أن الحكم إنما يؤخذ من الكتاب السماوي وليس من التيارات الجارفة ولا الموروثات المتعصبة والمضيعة للمقادير والمُخسرة للموازين والمجمدة للعقل الذي وهب للإنسان من أجل الحرية والتفكير.
إذاً فالآية تعطي فكراً ممانعاً يقارع الباطل في كل زمان، ويصحح المسار في كل مكان، وحين نزل القرآن على قريش وأهل الكتاب إنما قرع الأجراس لإنعاش القلب وإعادة العقل المخطوف لصاحبه ليأخذ قراره بنفسه. وليعيد لكلام الله مكانته وسلطانه المنزوع منه، فمتى ما عاد العقل لصاحبه، وأعيدت مكانة الكتاب السماوي إلى مكانته الحقيقية،  اكتملت عناصر الحصانة وبني الجدار الممانع الذي يقارع كل دخيل ، ِويسقط بنيان الضلال من القواعد بسؤال واحد .. مجرد سؤال .. (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(3)؟!
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الصافات  (149)-(154)
(2) الصافات (155)-(157)
      (3) يونس (68)


الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

فهم القرآن أزمة تقدير لا تفكير

لم يكن مثلُ "البعوضة" مثلاً عابراً في ثنايا سورة البقرة وفي سياق الحديث عن مرضى القلوب، بل إنه مثل يؤسس لمفهوم هام في التعامل مع الكتاب على مبدأ فهم الإنسان لقدره أمام الخالق. إن قضية فهم الإنسان لقدره تأخذ أبعادها في واقع الإيمان كما يشير إلى ذلك القرآن في أكثر من موضع وبأكثر من صورة، وآية "مثل البعوضة" تبين المقام الحقيقي الذي يجب على المؤمن أن يأخذه أمام الكتاب السماوي، وترشد إلى بداية هامة لفهم الكتاب.
(إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ)(1)
مثل "البعوضة" في بداية سورة البقرة يقول للإنسان إن مثل قدرك أمام الله سبحانه وتعالى هو مثل البعوضة، وبهذا فإن الآية تقر حقيقة الضعف والصغر والهوان الذي يجب أن يَمثل به الإنسان أمام ربه وبالتالي أمام الكتاب، و تُنزل الراغب في الإيمان بالكتاب منزلة الخشوع ، فيسأل الكتاب باستصغار و يناقشه بخضوع، وبهذه الرؤية المليئة بالعدم و الاستصغار أمام الخالق العظيم، تتأسس علاقة المؤمن بالكتاب السماوي.
حقيقة البشر أنهم لا يتعاملون بمنطق واحد ولا برؤية واحدة، بل برؤى مختلفة ومتباينة في كثير من الأحيان، وتتشكل تلك الرؤى لدى كل جماعة وكل إنسان من خلال نظرته لنفسه وللحياة، وعلى أساس تلك الرؤى و تلك التوجهات يتخذ الإنسان المنطق الذي  يلائمه، ومن ثم ينعكس ذلك المنطق منهجيةً يسير على أساسها في ميدان الحياة، ويصبح لدى كل جماعة بناءً لتلك الرؤى تبريراتها في حركتها في شتى التفاصيل. يعرض لنا القرآن الكريم وفي أكثر من سورة  تلك الرؤى المختلفة في الدين، فهناك منطق الآمن من العقاب المطمئن الذي أرفع من شأن نفسه وطائفته وأضاع قدره الحقيقي أمام الله، وفي المقابل هناك منطق الضعيف الخائف الذي أدرك حجمه الحقيقي أمام خالقه.  وبناءً على هذين المنطقين المختلفين تتكون منهجيتان مختلفتان، فإما أن تتكون منهجية الثبات على الموروث والتمسك بما كان عليه الآباء على أساس أن الطائفة لها حظوة وخصوصية عند الله، أو تتكون منهجية الحركة والتغيير على أساس البحث عن الحقيقة والبحث عن سبل النجاة أمام خالق يتعامل مع البشر بالقسط دون تمييز أو محاباة، وعلى أساس من النظام والقانون العادل للمحسن إن أحسن، وللمسيء إن أساء.
ما لم تلامس قلب الإنسان الحقائق الربانية عن تكوينه وقدره الحقيقي تستدير بوصلة التفكير لديه إلى الجهة والمنطق الذي تفرضه قوة أحاسيسه الداخلية عن اعتباراته لذاته وطائفته وللأشياء من حوله. وهنا منهجيتان متباينتان وإن تشابه مظهرهما، ومتباعدتان وإن تطابقت أفعالهما، فالمنهجية الأولى والتي نبعت من غياب فهم الإنسان لقدره الحقيقي أمام الخالق توظّف كل شيء من أجل الأنا بشتى صورها، أما المنهجية الثانية فإنها توظف كل شيء وحتى الأنا من أجل الخالق ومن أجل الحقيقة لا سواها. وعليه يكون الاختلاف في التعامل مع الكتاب السماوي، فهو إما أن يُوظَّف لصالح الجماعة التي أعلت  نفسها وأعزت مكانتها واغترت بنفسها أمام الله، أو أن يوضع فوق الرؤوس ليعلو على كل ما هو عال من الاعتبارات الاجتماعية و الإرثية على أساس من العبودية التامة و التسليم الحقيقي لله. إما أن يؤخذ من الكتاب ما تهواه الأنفس وحسب، فيُقتطع منه كل ما يشبه أنه رفعة لمكانة الجماعة بأشباه الأدلة وبلوي أعناق الآيات لصالح الذات، وإما أن يُؤمن بالكتاب كله فتتوطن النفوس للتغيير والحركة والتبديل نحو الحق مهما كانت النتائج.
من خلال إدراكنا لأهمية موضوع قدر الإنسان هذا، يمكننا أن نفهم أصل المشكلة في فهم الكتاب السماوي في كونها في معرفة التقدير لا في قوة التفكير، فالتفكير إنما يدور في فلك المنهجية والمنطق الذي وقع فيه الإنسان واعتقده في ضميره، والعقل خادم الضمير. ولا شك في أنه لاعتبارات الجماعة لنفسها تأثير في التعامل مع الكتاب مالم تصحح المقادير، بل إن لتلك الاعتبارات بالغ الأثر على سلامة القلب وقوة إدراكه للحقائق الربانية إذ إن لها الحضور الأكبر في النفس ما لم تقارع باعتبار أكبر وهو قيمة الكتاب ومكانته، فبتلك المكانة وبذلك السمو تؤخذ حقائق الكتاب وأحكامه بصفاء دون تأثير وتشويش من تركة (الأنا) الثقيلة المتمثلة في موروث الآباء وسنة الأولين. وتتخذ هذه المشكلة عدة صور، فهي بلغة التقدير بين طرفين هما الأنا و الإله، وبلغة النصوص الدينية بين الموروث و الكتاب، وبلغة المنهجية بين التصحيح و التحجر. وبهذا التسلسل يتضح أن أصل مشكلة التحجر في الدين هو إعلاء الموروث كونه مقيداً للحركة وسالباً للحريات، وأصل مشكلة إعلاء الموروث هو سوء تقدير الإنسان لنفسه وفئته التي ينتمي إليها وظنه أنه على صواب وأنه في الفرقة الناجية فيتمسك بكل ما تحمله من خير وشر في موروثاتها. وبهذا التسلسل أيضاً يتضح أن للحركة والقدرة على التصحيح في الدين أصلاً مرجعياً وهو الكتاب الذي يحمّل الفرد مسؤوليته في القرار، ويضعه أمام خيار أنه لا نجاة للإنسان إلا بميزان الحق بتجسيد آيات الله البيانات وتفعيلها في الواقع، وأصل اتخاذ الكتاب كمرجعية في الدين يعود إلى أصل آخر وهو فهم القدر الحقيقي لله، لذا تعلو كلمته فوق كل الكلمات ويعلو اعتباره سبحانه فوق كل اعتبار.
إن سورة البقرة المباركة وفي مثلها "مثل البعوضة" تؤسس لمنهجية البحث الموضوعي من خلال وضع الإنسان  في قدره الحقيقي، لأنها تقول ضمناً انظر للمسافة بينك وبين خالقك جيداً واحفظها، وقدّر الله حق قدره بتقدير آياته وإعلائها، واسلك بنفسك طريق نجاة حقيقي باتباع البيّن من آياته إن كنت تؤمن فعلاً بجنة ونار، ولا تك كالذين كفروا وقالوا "ماذا أراد الله بهذا مثلاً " ، (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ)(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)  سورة البقرة آية (26)
(2) سورة البقرة آية (27) 

الثلاثاء، 6 ديسمبر 2016

هل عندكم سلطان بهذا - سورة الصافات من آية 149 إلى آية 157 - تسجيل صوتي

أولا: دراسة الآيات
توجه الآيات الخطاب للنبي محمد (ص) بأن يتوجه بالاستفتاء إلى المعنيين بعقيدة عبادة الملائكة ليسألهم عدة أسئلة. و يعود امتداد قريش النسبي لنبي الله إبراهيم من فرع إسماعيل ، فهم إذاً بني إسماعيل. ويعود امتدادها الديني لملة إبراهيم الذي بنى البيت وأرسى قواعده مع نبي الله إسماعيل (ع). ولكن قريش التي طال بها الأمد والتي ما جاءها نذير من قبل النبي محمد (ص) انحرفت مع الأيام عن الملة بإدخال عقائد وأحكام ليست في أصل الدين، وعندما جاء النبي محمد (ص) بالقرآن الكريم كان استنكاره على المضاف وليس على المضاف إليه، يعني أن استنكاره كان على الأحكام والعقائد الدخيلة وليس على الأصل الذي كانوا عليه فقد كانوا على ملة إبراهيم، بل إن الله أكد للنبي محمد بأن يلتزم  بملة إبراهيم (ع). ( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) (1) .
واحدة من تلك الأحكام والعقائد الدخيلة الباطلة التي أضيفت على أصل الملة هو الإعتقاد بالملائكة ، حيث اتخذوا الملائكة شفعاء وتراخوا عن الالتزام بقيم الملة على أساس تلك الشفاعة واعتبروا أن الله خلق الملائكة إناثا وأسموهم تسميات الإناث، وأن الله اتخذهم بنات له سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيرا، وهذه الآيات في سورة الصافات جاءت لتعارضهم على هذا المعتقد وهي واحدة من آيات كثيرة في القرآن الكريم، والآيات تطرح تساؤلات توجهها لقريش هي :
1-   أنتم تحبون البنين، فهل يصح أن تنسبون لله البنات وتجعلون البنون لكم، فما بالكم لم تنصفوا الله من أنفسكم في هذا الاختيار.
2-   هل شهدتم خلق الله الملائكة حتى تدعوا أنهم إناث، وخلقهم كان في عالم الغيب ؟
3-   "أصطفى البنات على البنين" ؟ "ما لكم كيف تحكمون"؟ وهم مخلوقاته ، وقد أنزلتم الله بهذه المعتقد منزلة لا تليق به فكيف حكمتم بهذا الحكم ؟
4-    " أفلا تذكرون "؟ أي لماذا لا تعودون لذكر وهو الكتاب السماوي وتأخذون منه عقائدكم وأحكامكم؟
5-   "أم لكمن سلطان مبين "؟ "فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين"؟  السلطان المبين هو ما يملك الحق في القرار الواضح البين ولا يملك أحد الرد عليه أو مخالفة ما أمر  به. والآية التالية تبين ماذا يجب أن يكون هذا السلطان فتقول "فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين" أي أن السلطان لا يكون إلا من عند الله سبحانه وتعالى ومن كتابه العزيز.
ثانياً: ركيزة الحوار في الآيات
ارتكز الحوار على أساسين ، الأساس العقلي والأساس النقلي. في الركيزة الأولى  وهي الأساس العقلي:
من أفعال المعتقدات الباطلة أن تغير المقادير أي أنها تغير من مقدار الله سبحانه وتعالى ، وهنا كانت التساؤلات العقلية المثيرة لمكامن الفطرة التي ترفض أن يقلل من  قدر الله سبحانه وتعالى، الأمر الذي يدركه القلب وتستشعره النفس، ومن الممكن أن يتراجع عنه الإنسان مالم تقف النفس بعنادها حائلاً عنه عن التراجع عن هذا الباطل ، لذا كانت الأسئلة التالية:
1-   ألكم البنات ولكم البنون؟
2-   أصطفى البنات على البنين مالكم كيف تحكمون؟
في الأساس الثاني كانت التساؤلات حول المصدر الذي نقلت منه العقيدة، والتي تبحث وتأصل للعقيدة من مصدرها الصحيح، فكانت التساؤلات التالية :
1-   "أم خلقنا الملائكة وأنتم شاهدون" أي أن إذا حكمتم على لشيء، فلابد وأن  تكونوا قد شهدتم هذا الشيء بأنفسكم، فهذا هو الطريق الصحيح الأول.
2-   " أم لكم سلطان مبين" أو أن يكون لكم سلطان يقول فلا تردوه، وهو الكتاب السماوي.
ثالثاً : فهم من هذه الآيات
1-   أن الحكم بالغيب لا يكون بالرجم، وإنما يكون بالكتاب السماوي، ولا سلطة لشيء ولا لقول إلا للكتب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على بني البشر لأنها صادرة من الخالق.
2-   أن حصانة المجتمع والفرد ضد العقائد الدخيلة الفاسدة إنما تأت من وجود شيئين: التفكير الحر والنص الأصلي.
3-    أن العقائد الدخيلة في أي زمان تقلل من قدر الله، وعلاجها يبدأ بإعادة قدر الله سبحانه وتعالى بالتفكير الحر والالتزام بالنص الأصلي.
4-   القرآن الكريم يكرس ثقافة "إن عندكم  من سلطان بهذا"، هي ركيزة أساسية لكل فرد يعالج بها الموجودات الإرثية التي تقع بين يديه، فإن كان لها في سلطانه أصل وإلا ردت، ففي الكتب السماوية العلم الذي يريده الله من الإنسان، فإن رأى مايخالف الكتاب ردها على أساس عدم العلم  بها كما بينت آيات كثيرة (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .

وسائط
رابط 1
رابط 2
رابط 3
رابط 4

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش البحث:
(1) النحل (123)


(2) العنكبوت (8)

مواضيع ذات صلة